عزيزي الزائر أهلا وسهلا بك في موقع في المدرج نقدم لكم اليوم مصطفى شهيب يكتب: " الفستان الأبيض" وأحلام ألوان - في المدرج
مصطفى شهيب
لقد تم خداعي عندما انطفأ النور في السينما وبدأ شريط العرض يتحرك في الماكينة. تخيلت أنني سأرى فيلماً لايت وخفيفاً، وعندما بدأ الفيلم وظهرت أزمة الفستان الأبيض لعروس يوم وقفة العيد تبحث عن فستان لترتديه بعد ساعات في حفل زفافها، تخيلت أن تكون رحلة البطلة عن الفستان. ولكن اكتشفت أن الفيلم أعمق من هذا بكثير، وأن الرحلة الظاهرية كانت عن الفستان، بينما الرحلة نفسها كانت رحلة بحث البطلة عن روحها ونفسها وأولوياتها ومراجعة قراراتها ومنطق الحياة الذي لم يعد موجوداً. وتلك كانت الرحلة الأصعب من إيجاد الفستان.
"أنتِ بتسألي بس وما عندكيش إجابات لحاجة ولا بتتْعبي عشان تلاقي إجابة"
جملة قالتها إحدى الشخصيات لبطلتنا "وردة"، وردة التي تظل طوال الرحلة تبحث عن إجابات لأسئلة واختيارات صعبة. لا تعرف لماذا لم تجد فرصة في الصحافة رغم أنها خريجة إعلام، ولا تعرف إلى متى ستقف أمام قلاية زيت البطاطس التي تسرق عمرها؟ لا تعرف لماذا تستكثر عليها الدنيا أن تلبس فستاناً أبيض تحبه في ليلة عمرها، أن تختار شيئاً واحداً فقط وسط كل الأشياء المفروضة عليها. ولا تعرف لمن تسمع: هل لانهزامية أمها أم تمرد صديقتها؟ وهل تحكم زوجها فيها حباً لها أم مجرد سيطرة؟ هل هي ضحية أم مفترية؟ وفوق كل ذلك، البحث عن تفسير سبب حظها التعس في الحياة، وهل سببه أنها فقيرة أم لأنها طموحة أم لأنها بنت من الأساس؟!
لو شاهدت الفيلم، لن تتخيل أبداً ممثلة تلعب دور "وردة" غير النجمة ياسمين رئيس. إتقانها للدور مرعب، مخيف، مذهل، عبقري. لا تقدم ياسمين فيلماً بل تقدم فاصلاً من الدهشة لمدة ساعتين. ومن شدة إتقانها للدور، لم أتخيل أنها شخصية يتم تمثيلها، بل أكاد أجزم أن ياسمين شخص و"وردة" شخص آخر. وردة التي ظللت أبحث عنها في شوارع وسط البلد بعد العرض وأراها في وجوه كثيرة أقابلها.
أتمنى أن يتم عمل جائزة فنية مخصوصة "للأداء التمثيلي للعيون" لتذهب باستحقاق وتزكية لياسمين رئيس! أعتقد أن عيون ياسمين وحدها تمثل أكثر من فنانات كاملات متصدرات على الساحة ملأن الدنيا صخباً وضجيجاً لمجرد ركوب التريند وجذب الأنظار. فالنجاح الآن لم يعد بقدر موهبتك وعملك، بل بقدرتك على خلق "الدوشة" حولك طول الوقت. وهذا يظلم ياسمين رئيس كونها تركز فقط في عملها وتجتهد فيه ولا تسعى لضرب الصواريخ في الهواء للفت الانتباه. ولذلك لم تحصل على قدر النجومية التي تستحقها ولا المكانة التي نتمناها.
ولكن التاريخ يعلمنا ونحن نراهن بثقة أن "الفراقيع" ستنتهي وتزول بمجرد انتهاء الدوشة، وستبقى الموهبة وحدها تنتصر ويعود ترتيب مكانة الأشخاص لوضعهم الصحيح. بالمناسبة، دور "وردة" أثبت موهبة غير محدودة لياسمين رئيس التي اتُّهمت من قبل أن جمالها جزء من نجاحها، وها هي تطل علينا ساعتين بحجاب وملابس واسعة ودون أي مكياج لتخطف بموهبتها المجردة فقط قلوب كل من يشاهدها. تثبت بالتجربة أنها تمتلك جمالاً في الأداء يضاهي جمالها الخارجي وأكثر.
ذكرتني بطلة الفيلم بواقعة النجمة مارلين مونرو عندما اتهمها بعض النقاد بأن نجوميتها بسبب إغرائها وفساتينها القصيرة. فأرتدت شوال بطاطس فارغاً ونشرت صورتها في المجلات لتثبت للجميع أن الفنان هو من يصنع الجمال من الأشياء، وليست الأشياء التي تصنعه.
وفي تجربتها الأولى، أثبتت جيلان عوف أنها كاتبة ومخرجة موهوبة، ولديها إحساس متشبع بالحالة التي قررت تشريحها وتقديمها لنا. برعت في اختيار أماكن التصوير والشوارع والزوايا، وتفننت في اختيار الممثلين حتى في أدوارهم الثانوية، فخلقت لوحة فنية كبيرة مليئة بالتفاصيل الرقيقة المشبعة بالواقعية. وأكدت لنا أننا لم نفقد مدرسة محمد خان بعد رحيله، وأن مصر ولّادة بمواهب تجعل السينما المصرية رأسها مرفوعاً.
ورغم وجود بعض السلبيات بالفيلم، مثل الإيقاع البطيء في أوقات ما وهروب المزاج العام للفيلم في أوقات أخرى، إلا أنني متأكد أن تلك السلبيات ستتجاوزها مخرجتنا الشابة في أفلامها القادمة. فالأخطاء هي التي تعلّم الإنسان، والتجارب غير المكتملة هي التي تصنع مخرجاً دؤوباً يحاول أن يطور نفسه طوال الوقت.
ولكن إجمالاً، كتجربة أولى، نحن بصدد مخرجة قادمة بقوة للمنافسة في السوق. الأداء التمثيلي لأسماء جلال كان ملفتاً ومميزاً. وأجاد أحمد خالد صالح في دوره رغم مشاهده المحدودة، وأضافت لبنى ونس، وسلوى محمد علي، ومي مي جمال نعومة فوق نعومة فيلمنا. كما أضاف الممثل الذي قام بدور "سيد الكوافيرجي" ابتسامة وحضوراً جذاباً، وبحثت عن اسمه ولكن للأسف لم أتوصل إلى نتيجة.
في النهاية، نحن لسنا أمام فيلم عادي. نحن أمام تجربة إنسانية سينمائية مختلفة تحتاج إليها السينما لتجدد شبكية عيون المشاهد وسط كل الأفلام التجارية البحتة. وهي بلا شك جرأة مشتركة من شركة الإنتاج والمخرجة في أول عمل تعرفنا بنفسها فيه، وبطلتنا ياسمين رئيس التي آمنت بالفكرة وقررت المغامرة بتقديمها ولم تضع عينها على شباك التذاكر كمعيار وحيد لاختيارها.
0 تعليق