تحرك هذا الدالُّ على شكل مسألة بين أديبين أندلسيين:
أما أولهما فهو جعفر بن عثمان المُصْحَفِي الملقب بالحاجب، شاعر وكاتب، استوزره الحَكَم المستنصر الأندلسي. وأما ثانيهما فهو أبو بكر محمد بن الحسن الزُّبَيْدي (316هـ – 379هـ)، عالم لغوي شهير، ألَّف في النحو كتابًا سماه: الواضح، واختصر كتاب العين للخليل. كان صاحب شرطة الحَكم المستنصر.
كانت بين الرجلين مكاتبات عديدة؛ منها هذه التي دارت حول قضية لغوية. فقد كتب المصحفي إلى الزبيدي كتابًا وردت فيه عبارة (فاضت نفسه) بالضاد، فاعتبرها الزبيدي خطأ، ولكنه لم يصرح بذلك، وإنما أشار إليه بطريق التلميح، فقال:
قُلْ لِلْوَزِيرِ السَّنِيِّ مَحْتِدُهُ
لِي ذِمَّةٌ مِنْكَ أَنْتَ حَافِظُهَا
عِنَايَةٌ بِالْعُلُومِ مَفْــخَــرَةٌ
قَدْ بَهَظَ الْأَوَّلِينَ بَاهِـظُهَا
وَفِي خُطُوبِ الزَّمَانِ لِي عِظَةٌ
لَوْ كَانَ يَثْنِي النُّفُوسَ وَاعِظُهَا
لاَ تَدَعَنْ حَــاجَتِـي مُطَــرَّحَــةً
فَإِنَّ نَــفْسِــي فَــاظَ فَـائِظُــهَا
فأجابه المصحفي بأبيات؛ منها قوله:
كَيْفَ تَضِيــعُ الْعُلــومُ فِي بَلَدٍ
أَبْنَــاؤُهُ كُلُّـــهُــمْ يُحَــافِــــظُـهَا
أًلْفَــــاظُهُــمْ كُلُّــهَــا مُـعَطَّلَةٌ
مَـا لَمْ يُــعَوِّلْ عَلَيْــكَ لاَفِظُهَا
وَقَدْ أَتَتْنِــي فُــدِيــتَ شَاغِلَةٌ
لِلنَّفْـسِ أَنْ قُلـْتَ:(فَاظَ فَائِظُهَا)
فَأَوْضِــحَنْهَــا تَفُزْ بِنَـادِرَةٍ
قَــدْ بَــهَــظَ الْأَوَّلِيــنَ بَـاهِظُهَا
ويظهر أن المصحفي لم يذكر (فاضت نفسه) بالضاد إلا وهو يقصد وجهًا لغويًا مَقولا ومتداولًا لدى الكُتَّاب وأهل اللغة. فعبد الرحمن بن عيسى الهمذاني (ت: 320هـ/933م) قال في كتابه: الألفاظ الكتابية: “فاض الإناء”: إذا سال من شدة امتلائه، و“فاظت نفسه”: إذا خرجت، وقد حُكيَ “فاضت نفسه”. و“فاد الرجل يفود”: إذا هلك ومات (2). كما يظهر أن مخالفة الزبيدي للمصحفي ليست في العمق دليلًا على الخطأ، بقدر ما هي دليل على علم العالم. فالمصحفي شاعر مترسِّل، لغوي ضليع، ليس من السهل وقوعه في أخطاء اللغة، فهو يعي الفروق اللغوية، ويميز بين اللغة النمطية، وبين لغة التوجيه المنطقي، ولغة التناول العلمي.
ولذلك نراه في عبارته (فاضت نفسه) وكأنه يحفر فجوة بين استعمالين للفظة (=قديم/مبتكر)، ويبتعد بها عن التقييد اللغوي المتأصِّل والمتداول، مستجيبًا في ذلك لروح اللغة ومَكْرها الخاص الذي لا يستجيب بالضرورة لإرادة اللغوي وأُفقه المحدود، وإنما للأفق اللانهائي للمبدع. فاللغة تتحرك بشكل تضافري من طرف القوى المبدعة، لا من طرف القوى الساكنة في غُرف الاطمئنان الجاهز.
فإذا كان فعل (فاض) دالًّا على الامتلاء، وفعل (فاظ) دالًّا على الموت، فإن هناك منطقة دلالية يشتركان فيها، ويتبادلان المواقع. وهذا هو ما انتبه إليه الفيروزأبادي (729هـ – 817هـ) فيما بعد، فقال في مادة (فيَضَ) من معجمه: “فاض الرجل مات، وفاضت نفسه: خرجت روحه، وفاض الشيء: كثر”، وفي مادة (فوظ): “فاظ: مات”، وفي مادة (فيَظ): “حان فيظه وفوظه: موته”.
وعليه؛ فإن المادة، سواء أجاءت بالضاد أو بالظاء أو بالدال، فهي تدل على الكثرة والامتلاء، وعلى الخروج والمغادرة.
الإحالات
- عبد الواحد المراكشي: المعجب في تلخيص أخبار المغرب، تح: محمد سعيد العريان، منشورات المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، القاهرة 1383هـ/1963م، صص: 65، 64.
- عبد الرحمن بن عيسى الهمذاني: كتاب الألفاظ الكتابية، اعتنى بضبطه وتصحيحه: الأب لويس شيخو اليسوعي، عارٍ من تاريخ الطبع ومكانه، صص: 256، 254، 175. وعن صاحب هذا الكتاب قال الصاحب بن عباد: “لو أدركته لأمرت بقطع يده، لأنه جمع شذور العربية الجَزْلة، فأضاعها في أفواه صبيان الكُتاب، ورفع عن المتأدبين تعب الدروس والحفظ والمطالعة الدائمة”.
0 تعليق