تظل القيم الإسلاميَّة هى الضامنة لاستقرار المجتمع، المحقِّقة لسلامه النفسى، الحافظة لمكتسباته الماديَّة ومنجزاته الحضاريَّة، وبقدر توطن هذه القيم وتجذُّرها فى نفس الإنسان بقدر ما ينعكس ذلك على المجتمع إيجاباً، وعندما تهتز منظومة القيم فى أى مجتمع تتدهور أوضاعه، وتسوء أحواله، ومن ثَمَّ يُهرع القادة والمفكرون والمثقفون إلى ترسيخ هذه المنظومة القيميَّة فى حياة الناس.
ولما كان لهذه المنظومة من الأهمية، جنَّد الأزهر الشريف علماءه وطلابه لرعايتها، والحفاظ عليها، باعتباره وارث أنوار النبوة التى جاءت تتمم مكارم الأخلاق، والمطالع لتاريخ الأزهر يجد أنَّ بناء الإنسان ليس شعاراً يرفعه الأزهر ولا يتجاوز مداه حناجر المنادين به، بل إنَّ بناء الإنسان محور دراسات الأزهر؛ العقديَّة، والفكريَّة، والشرعيَّة، والسلوكيَّة، والاجتماعيَّة، والاقتصاديَّة، وكل ما ينتجه الأزهر من أطروحات علميَّة، أو يعكف عليه من دراسات أكاديمية مراده منها بناء الإنسان، والارتقاء بالخصائص الإنسانيَّة إلى أعلى مستوياتها؛ لتصير جديرة بالاستخلاف وعمارة الأرض.
وتنبثق قدرة الأزهر على التأثير فى بناء الإنسان، وتشكيل وعيه، من وراثته التاريخ الفكرى للعالم الإسلامى بأسره، فتقرأ فى صحنه وعلومه ونتاجه العلمى التنوع الذى لا يؤدى إلى فُرقة، والوحدة التى لا تنقلب إلى شموليَّة متوحشة، والمعايير التى تضبط النتائج، والأصول التى تضمن سلامة الوصول، وهذا الأفق الفكرى الواسع الذى استوعب حركة التاريخ الإسلامى على كلِّ الأصعدة دراسة وتحقيقاً وإنتاجاً لمزيد من المعطيات والدلالات التى تسهم فى بناء الإنسان، وتحافظ على خصائصه وسط التراكمات الماديَّة التى تتصارع لاغتيال الإنسانيَّة، مستمد من القرآن الكريم والسنة النبويَّة، إذ يعتمد الأزهر الشريف فى بناء الإنسان على هذين المصدرين الأصيلين، فهو يستمد من القرآن الكريم وتطبيقات السنَّة النبويَّة ما يبنى به الإنسان، ويقوِّم اعوجاجه، ويصلح فساده، فهو منهج قائم على الوسطيَّة التى ترشِّد سلوك الإنسان فى تعامله مع بنى جنسه من ناحية، ومع مفردات الكون من ناحية أخرى، وتربط دنياه بأخراه، فيحقق بذلك اعتدالاً لا يعرف الميوعة، ومرونة لا يتخللها تحلل.
وإذا كان هذا هو منهج الأزهر فى بناء الإنسان، فلا غرو أن نجده يتصدى لدعوات الابتذال والفجور، والسلوكيَّات الشاذة، والعقائد الفاسدة؛ والأفكار الهدَّامة التى تهدد الوجود الإنسانى، وتستبيح قيمه، وتقضى على فطرته التى فطره الله عليها، وتئد عفافه، وتغتال كرامته؛ وذلك صيانة للبناء الإنسانى، وحفاظاً على النسق الأخلاقى الذى يضمن استقرار المجتمع، وسلامة الوطن، وتفعيلاً للتكريم الذى اختص الله به بنى آدم فى قوله تعالى: «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً»، وفى الوقت الذى يتصدى فيه الأزهر للدعوات الهدَّامة بلا هوادة أو مواربة نجده يتجاوب بسرعة البرق مع المبادرات الرصينة، ويتفاعل معها تفاعلاً إيجابياً يكون له صداه، وفى ضوء هذا الاعتدال نستطيع أن نفسر احتضان الأزهر لمبادرة مؤسسة الرئاسة «بداية جديدة لبناء الإنسان» وما اتخذه الأزهر من فعاليَّات شملت كل قطاعاته الدعويَّة، والتعليميَّة، والأكاديميَّة، وهى مبادرة تعكس رؤية رشيدة للقيادة السياسية.
وإذا كان الأزهر يحتضن هذه المبادرة ويجوب الآفاق تنفيذاً لبنودها، فقد كان لعلمائه دورهم المهم فلم يغفلوا فى أطروحاتهم العلميَّة قضية بناء الإنسان، فالأزهر عنوان ضخم على حقيقة كبرى تجاوز عمرها ألف عام وثمانين أو يزيد، كان بناء الإنسان محورها، وكانت قيمه موضع اهتمامها، وكان الحفاظ على خصائصه الإنسانيَّة محل دراساتها، وكانت هدايته لُبَّ دعوتها، وصدق الله العظيم إذ يقول «فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِى الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ».
0 تعليق