رغم الضغوط التي يمارسها النظام الحاكم في الجزائر تواصل موريتانيا تمسكها بخطها الدبلوماسي المستقل الذي يسعى إلى الحفاظ على علاقات متوازنة مع جيرانها، بما يشمل المغرب. فبينما تحاول الجزائر بكل الوسائل استمالة موريتانيا (الطرف المراقب في ملف الصحراء) للانضمام إلى مشاريعها التخريبية في المنطقة المغاربية، تؤكد نواكشوط من جديد أنها لن تتخلى عن سياسة “الحياد الإيجابي” تجاه القضايا الخلافية في المنطقة، على رأسها قضية الوحدة الترابية للمملكة، وتجنب الانخراط في أي محاور أو تحالفات قد تضر بمصالحها الإستراتيجية.
ويبدو أن الجزائر اصطدمت مرة أخرى بردود الفعل غير المعلنة من القيادة الموريتانية التي ترفض الانصياع للرغبات الجزائرية، بعد الزيارة الخاطفة التي قادت الرئيس الجزائري إلى نواكشوط، ووصفها العديد من المراقبين بـ”الزيارة الباردة”، بالنظر إلى كونها الأولى من نوعها لرئيس جزائري إلى موريتانيا منذ أكثر من ثلاثة عقود، وكان من المفترض أن تشهد أنشطة رسمية واستقبالاً يليق بحدث دبلوماسي من هذا الحجم، وليس الاكتفاء باستقبال ضيف نواكشوط في المطار ثم إلقائه خطابًا في مؤتمر قاري حول قضايا التعليم والشباب، ليعود أدراجه مباشرة بعد انتهاء أولى جلسات المؤتمر.
ويؤكد مهتمون أن هذه الزيارة كانت بمثابة اختبار جديد لنوايا النظام الجزائري تجاه جيرانه في المنطقة، فيما فشل في تحقيق الأهداف التي كان يطمح إليها في ظل ممانعة موريتانيا التي ترفض كل المحاولات الجزائرية للتأثير على مواقفها، أو الزج بها في صراعات إقليمية هي بمنأى عنها؛ فبدلاً من الانضمام إلى مساعي الجزائر لتعزيز التكتل المغاربي المختلق، كما فعلت تونس تحت قيادة قيس سعيد، اختارت نواكشوط الحفاظ على توازنها ونهجها المستقل، وعلى حيادها في قضية الصحراء في انتظار نضج الشروط السياسية للخروج بمواقف أكثر تقدمًا وأكثر مسايرة للنهج الدولي والأممي في هذا الملف.
ضغوط ومخاوف
قال وليد كبير، صحافي جزائري معارض، إن “الزيارة القصيرة التي أجراها الرئيس عبد المجيد تبون إلى موريتانيا سبقتها زيارة قادها السعيد شنقريحة، رئيس أركان الجيش الوطني الشعبي إلى هذا البلد، من أجل الضغط عليه وإقناعه بالانضمام إلى مشروع التكتل المغاربي الذي أطلقه النظام، ويقصي المغرب، وكذا إقناعه بالانسحاب من المبادرة الأطلسية التي أطلقها المغرب لفائدة دول الساحل”.
وأوضح كبير في تصريح لهسبريس أن “زيارة تبون تأتي هي الأخرى في هذا الإطار، إذ تتعرض القيادة في نواكشوط لضغوطات كبيرة من طرف النظام الجزائري من أجل مسايرة توجهاته في المنطقة، وعلى رأسها التصعيد ضد المغرب”، مضيفًا أن “قصر مدة هذه الزيارة التي تعد الأولى من نوعها لرئيس جزائري إلى موريتانيا، والاستقبال البارد الذي حظي به تبون، إضافة إلى غياب أنشطة رسمية، كلها مؤشرات تؤكد على فشل النظام في إقناع نواكشوط بما يخطط له في المنطقة”.
وتابع المتحدث ذاته بأن “موريتانيا لا تريد الانخراط في أي خطوات أو مبادرات جزائرية من شأنها أن تضر بعلاقاتها مع جيرانها”، مشيرًا إلى أن “وجود تخوف جدي لدى النظام الجزائري من حدوث تطور جوهري في الموقف الموريتاني من قضية الصحراء، ومن تأثير الدعم الدولي لعدالة القضية المغربية، وكذا الموقف الفرنسي الداعم للسيادة المغربية على الصحراء، على مواقف نواكشوط التي تربطها علاقات متميزة مع باريس”.
وسجل الصحافي الجزائري ذاته أن “أي حدث من هذا القبيل سيكون نقطة تحول جوهرية في الصراع الإقليمي حول الصحراء، وهذا ما يتخوف منه النظام الجزائري الذي يحاول بشتى الطرق الحيلولة دون ذلك، بما في ذلك الدفع في اتجاه إحداث قطيعة بين المغرب وموريتانيا”، معتبراً أن “زيارة تبون الأخيرة تؤكد فشل النظام في استمالة الجانب الموريتاني، كما فشل من قبل في إقناعه بإغلاق معبر الكركرات والضغط على المغرب من أجل العودة إلى وضع ما قبل 14 نوفمبر من العام 2020”.
حذر وبدائل
يرى حسن بلوان، أستاذ باحث في العلاقات الدولية، أن “مجموعة من الزيارات التي قام بها الرئيس الجزائري إلى عدد من الدول في الآونة الأخيرة كانت مجانية وبدون أي أجندة مرتبطة بمصالح إستراتيجية للشعب الجزائري، وكان الهدف منها هو معاكسة الطموحات المغربية وكبح جماح التقدم المتسارع الذي يعرفه ملف النزاع المفتعل حول الصحراء لصالح الرباط”.
وأكد بلوان أن “زيارة تبون الأخيرة إلى موريتانيا تدخل في هذا الباب، ولم تكن بمناسبة ذات أهمية أو مرتبطة بمصالح مشتركة، على اعتبار أن الهاجس الأكبر لدى الجزائر من ورائها هو محاصرة المغرب انطلاقًا من موريتانيا والترويج للتكتل المغاربي الذي أعلنته عن مع كل من تونس والمجلس الرئاسي الليبي، فيما رفضت نواكشوط الانضمام إليه أكثر من مرة، ما دفع الرئاسة الجزائرية إلى فرض هذه الزيارة التي حصدت حصيلة صفرية”.
وشدد المصرح لهسبريس على أن “التعامل الحذر للدولة الموريتانية مع الأجندة التخريبية للجزائر ضرب عرض الحائط كل الطموحات الجزائرية لضم نواكشوط إلى صفها، إذ تتعامل الأخيرة بكثير من الحذر والتريث في إدارة علاقاتها المغاربية وفي تصريف مواقفها تجاه القضايا الإقليمية، خاصة قضية الصحراء المغربية”، معتبراً أن “موريتانيا تعي جيدًا أن مصالحها الإستراتيجية اقتصاديًا وأمنيًا وسياسيًا تكمن مع المغرب أكثر من الجزائر، غير أنها تريد أن تصد التهديدات التي قد تنشأ عن سوء علاقاتها مع الجزائر التي تعتمد على إستراتيجية التهديد واختلاق الأزمات في سياستها الخارجية”.
وبين المتحدث أن “صناع القرار السياسي في موريتانيا يدركون جيدًا ألا مستقبل للصحراء إلا في ظل السيادة المغربية، ولذلك فهم لا يريدون توريط بلادهم في أي محور جزائري يمكن أن يضر بمصالحها وعلاقاتها مع المغرب التي تجري فيها مياه غير ظاهرة ستكون في صالح تثبيت السيادة المغربية على الأقاليم الجنوبية”، مشيرًا إلى أن “المغرب يطرح اليوم مجموعة من البدائل الاقتصادية لفائدة القارة الإفريقية ستستفيد منها موريتانيا التي يستعد اقتصادها لدخول مرحلة جديدة بعد الاكتشافات النفطية الأخيرة، ما يجعلها تأخذ مسافة من التحرشات الجزائرية، وسيدفعها إلى اتخاذ موقف شجاع من السيادة المغربية على الصحراء”.
0 تعليق