من جميل ما افتُتحت به سنة “احتفائية مراكش عاصمة الثقافة في العالم الإسلامي لسنة 2024” كلمةُ أديب رقيق التعابير، الدكتور سالم المالك، المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم. ومن جميل ذلك عرض نوستالجيا (في أمجاد تاريخ مراكش)، والتصوير الجوي البانورامي للمدينة. ومن جميل ما اختتمت به هذه السنة قصيدة شاعر مبدع، هو الدكتور سالم المالك المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم. ومن جميل ما اختتمت به هذه السنة، أيضأ، إزالة الحجب عن الطابع البريدي الرائع الذي يخلد هذه الذكرى. ومما جعل حفل الاختتام كذلك أنيقاً شعور الحاضرين بالأمن والطمأنينة، وذلك بسهر يقظ من ولاية مراكش وفقها الله.
“أما ما عدا ذلك، يا صاحب الشأن في الشؤون الثقافية (محمد مهدي بنسعيد)، فما كان فيه ما يثير الانتباه، دَعْوَتُكم “لـمثقفي وأدباء وعلماء وشباب مراكش ورجالاتها إلى إعطاء هذا العام حقه من الجمال وإظهار ما تتميز به المدينة الحمراء من ثقافة وعلم وفكر وأدب وفن وطرب للعالم الإسلامي وللعالم أجمع”، لم نر منها ما هو متميزٌ أعْربتْ عنه تظاهراتُ علم أو فكر أو أدب. فكل ما رأيناه في هذه السنة عادي، أسهم فيه العاملون في مثله من رجال الجامعة والطلاب وأصحاب الحرف والجمعيات المدنية والفنية وحتى الرياضية، وهم يفعلون هذا في كل سنة، بدون أن يكون لسنة مراكش صفة، وبدون أي إبداع منكم لتكون سنة متميزة”.
ما كان لي، أيها السيد، أن أصيغ هذه الفقرة أعلاه، بهذه الصياغة الصريحة، لولا لَمْزٌ منكم وغَمْزُ عَيْنٍ، في قولكم “بالدارجَ” ما مُعَرَّبُه: “نذِّكر بأن الإيسيسكو تعمل مجهودا كبيراً مع المملكة المغربية، بمجموعات من الاعترافات بخصوص، وأنا أتكلم عن التراث المادي واللامادي، وأنتم تعرفون المعارك التي نعيشها للأسف، أو تسييس هذا المجال من طرف البعض” (أرجو غض الطرف عن هشاشة الجملة).
سيدي لا أعتقد أن مستمعيك الذين جعلتهم “يعرفون معارك… بسبب تسييس هذا المجال..” في حفل الاختتام، يعرفون هذه المعارك التي تخوضها ولا ندري مع من في شأن هذه السنة؟ (إذا أخطأت صحح لي). واسمحوا لي إذا اعتبرتُ نفسي يجري عليها قول المراكشيين “الِّلي فيه الْفَزْ تَيَقْفَزْ”. فإني قد قفزت، لأني لم أقرأ شيئاً مكتوباً يهاجمك فيه سلاح الحرف الحاد في شأن هذه السنة التي “كُرمت” فيها مراكش بوصفها عاصمة الثقافة في العالم الإسلامي لسنة 2024، إلا رسالتي التي قصدتُ منها أن أكون عوناً لك على السير القويم و”تَسْيِيس فِعْلك”. وكنت أتمنى أن تدعوني لتكلفني بما تريده مني، خدمة لمدينة هي التي جعلت مني من أنا إياه، (ولأخدمك مجاناً بطبيعة الحال فيما يهم وطني وبلدي).
سيدي هداك الله، ما أنا برجل السياسة ولا ممن يدخل في تصريف فعلها “ساس يسوس”. صحيح أن كل إناء بما فيه يرشح، فأنت هو رجل السياسة ومن يُسيِّس، ولكن اسْأَلْ عني لتعرف هل أنا متحزبٌ أو أنا مُتَسَيِّبٌ قبل كل شيء. سيدي يؤسفني أن عدم فهمك لمعاني “سيس” جعلك تضع اللفظ في خانة الذم والهجاء وهو أصلا وُضع للمدح. ولو كان معنى اللفظ ما فهمتَه لكان عليك أن تتبرأ من مهمتك، فماذا تفعل أنت وكل الحكومة الموقرة غير السير بمقتضى “التسييس”.
والسياسة، حفظك الله، لفظ استُعير من فَنِّ الفروسية، فعادة ما يرفض الفرسُ الأصيل الجيدُ الخضوعَ، فيأتي السائس الحاذق ليسوسه، أي يكسبه قواعد “حضارية مدنية” بمقتضاها يتصرف. والوزير السياسي هو الذي يقوِّم شؤون الدولة ويسوسها. فقولك “تَسْييس هذا المجال من طرف البعض” هو مدح لنا إذا قصدْتَنا، وليس هجاءً” جزاك الله خيراً. على أيٍّ سيدي، وهنا أتحدث معك بصراحة.
هل الطريقة التي تحدثتم بها عن مجريات هذه السنة: سنة “مراكش عاصمة الثقافة في العالم الإسلامي” كانت كالذي وصفتم في خطابكم، رغم كثرة الأضواء والألوان وتحريك أواني أصحاب الفلكلور في خلفية المنصة وأنتم تخطبون؟ قلتم إن تظاهرات هذه السنة تجاوزت 200 تظاهرة. ولعلكم أو من مدكم بهذا الرقم زاد صفراً. والصواب أن برنامجكم الرسمي الذي كتبتم ووزعتم وأذعتم في وسائل الإعلام لم يتعد 27 نشاطاً بالضبط، وهي من صنع مَن كان يصنعها كل سنة وليس فيها جديد يميز مراكش في تكريمها بعناية من المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة. إن الأضواء لا تنير إلا الأفعال الحقيقية الصادقة، وإلا أصبحت كـأشعة س (X) لا تُبين إلا صوراً عظمية فاقدة للحياة، ضبابية اللون، تتبعها ظلالُ حريق في الخلف..
إن الكلمات المرصوصة إذ تحدثت عن شيء غير موجود، تصبح قصيدة هجاء للذي نظمها ويقرأها على الناس، ولن تصبح حقيقة أبداً، وخصوصاً إذا كانت على رؤوس الأشهاد. ومن يفعل هذا من الساسة “الذين يتسيسون” يفقد الاعتبار عند الذين وضعوا فيه ثقتهم. لم تعد السياسة التي هي مشتقة من “التسييس”، أيها السيد، لباس بدلةٍ يتبختر بها لابسُها أمام الناس فخراً، أو بطاقةَ زيارة يقضي بها ما لا يُقضى إذا كان غيرَ مستحق. السياسة، يا سيدي، أخلاق وإباء وكرامة وشرف وخدمة للوطن وللإنسان. السياسة معرفة وعلم وكياسة وحسن أدب وجميل ابتسامة واحترام للإنسان.
رجل السياسة هو الذي عليه أن يعرف أن الراكب لا بد له من نزول…. الكلام في أخلاق السياسة هو من تراثنا، وقد أبدع فيه كبار علمائنا كتابةً، وتصرف بمقتضاه خلفاؤنا الراشدون وساسة الأمة الإسلامية من الصالحين، بسامي الأخلاق، سُنَّةً من نبينا صلى الله عليه وسلم، واتباعاً لهدي القرآن والحديث. كيفما كان الحال، فما الذي “سَيَّسَ فيه البعضُ هذا المجال….” أنا أو غيري، وأخصني بالذكر؟ فالذي سيستُ به الأمر في رسالتي المفتوحة إليك خلال سنة مراكش عاصمة الثقافة في العالم الإسلامي لعام 2024، هو ما أعرضه من جديد، وأستسمح مَن قرأه، إذا كررته، لإظهار البراءة من فهم سيئ للفظ “سيس”. وهذا ما سيست به .. المجال:
“… كان على من تحمل وِزْرَ الثقافة أن يُعد للأمر عُدَّتَه بزمن طويل قبل هذه السنة، وذلك باختيار نخبة من رجال الجامعة، ونخبة من رجال القضاء، ونخبة من رجال المحاماة، ونخبة من رجال العلوم التطبيقية وعلم الطب، ومن رجالات مراكش وساستها الملتزمين العارفين. وأن يدعو أعلاماً من العالم الإسلامي والغربي ممن يهتمون بحضارة المغرب والفكر الإسلامي، ويهيئ للكل الأسباب، في لقاء موطَّأِ الأَكْنَافِ، سهل الرِّحابِ، لوضع برنامج يكون في مستوى ما أرادته منظمة الإيسيسكو وما تستحقه مراكش.
وكان لا بد أن يؤرِّخَ هذا البرنامجُ للحركة الفكرية الإسلامية في وجوه مختلف التعابير في المغرب، وأن يؤرخ لأعلام الثقافة الإسلامية، مراكشيين ومُحِلّين في هذه المدينة العريقة، ولرجالات الفكر الإسلامي ممن عاشوا أو مَرُّوا بهذه المدينة وهم كُثْرٌ… وكان لا بد لهذا البرنامج أن يشيد، بالمناسبة، بعظمة مؤسسات عرفتها مراكش في تاريخها، وهي بصمات رائقةٌ على وجه الأرض، منها قصور الحكم، ومساجد العبادة، وحدائق الزينة، وبحيرات التروض والتعلم، وقوي الأسوار، وجميل الأبواب، وعجيب القناطر والقباب.
ومنها الجامعة العظيمة التي رعاها المرابطون والموحدون، وكانت أول جامعة علمية حدث بها أعظم حدث سياسي عَقِيدي فكري، وهو المناظرة التي كانت بين عبد المؤمن بن علي رأس الموحدين وفقهاء العصر. جامعة درست فيها مختلف العلوم العقلية والنقلية. ومنها مع أختها القرويين في فاس، خرجت الشرارة الأولى للثورة على الاستعمار. وكان لا بد لهذا البرنامج أن يشيد بالـبيمارستان الذي بناه السلطان الموحدي أبو يوسف يعقوب المنصور، وأنْبَتَهُ في حِيَّاض حديقة غناء، ووفر له ما لم يتوفر اليوم في أكبر المستشفيات، عناية بالملبس والمطعم وراقي العلاج وجميل النغم. مراكش، مَنْبِتُ علماء. مَنْزِل علماء. فخرُ تاريخ، وفخرُ أمة. وبهذه الصفات رعاها سلاطين الدولة العلوية، خصوصاً في عصر يقظة المغرب، بدءاً من محمد الخامس، ومروراً بابنه الحسن الثاني رحمهما الله، إلى الحفيد والابن محمد السادس أيده الله ونصره”. (هذا هو ما سيستُ به الأمر، أي قدته نحو استدراك ما فات، ولم يُعَرْ أي انتباه لتسييسنا وتقويم الاعوجاج).
ذلك أنه رغم أني نبهتكم، وأنتم في عز سنة الاحتفاء، فما تحرك منكم ساكن، خصوصاً فيما عرضته عليكم من مقترحات، تسهيلا لمهمتكم التي أثقلت كاهلكم (الله إِكُونْ فْلَعْوان”، وهذا ما اقترحته عليكم في تنبيهي:
1 ترميم مدفن ابن بَرَّجَان بما هو أهل له، بوصفه أحد كبار أعلام العلم اللادوني وعلْمِ منتهى مراقي العدد والحساب. فمدفنه ركامٌ من تراب، قرب درب أعرجان في الرحبة القديمة.
2 شراء دار ابن البناء المراكشي، أحد أكبر علمائنا، وهي اليوم في ملك أجنبي لا ندري ما يجري فيه مما يغضب عالمنا لو كان حياً.
3 بناء سقف المعهد الموسيقي الــمَبْقور في الحارتي، وهو اليوم “خِربَة”.
4 إعادة بناء قاعة الزجاج التي شهدت وسمعت في نفس المكان، من كبار المحاضرين قبل الاستقلال وبعده. وكانت صدراً رحباً تبادل فيه مثقفو مراكش ومن زارهم جميل المناظرات، وبهيَ صور الآداب.
5 استدراك أمر كرسي ابن رشد في مراكش، الذي أعلنت عنه منظمة اليونسكو خلال ندوة أقيمت في مراكش في الثمانينيات، إذا لم تكن قد سحبته المنظمة وانتهى أمره.
6 إخراج “دار الباشا”، التي كانت في يوم من الأيام مَقَرّاً لخزانة عامرة أشرف عليها جِلَّة من العلماء، واستظل بظلها باحثون وطلبة، حتى استولى عليها من قَلَّ في عينهم وزْنُ الفكر وبهاء المعرفة، فحُولت مقهىً، يحمل شارة، وهي رمز تجاري استعماري مُهين… وللمقاهي ألف مكان ومكان في مراكش.
7 وضع برنامج متقن الصنع لحفل كبير بهي، تُختتم به سنة “مراكش عاصمة للعام الإسلامي”، يُكرم فيه كبار أعلام مراكش الذين برزوا في علوم مختلفة، واختراعات فائقة، وهم في المغرب وخارج المغرب، ويكرم فيه كل من جعل مراكش الإسلامية مَهْوَى قلبه وأدبه، من أي بلد كان، وفي أي حقل كان. ففي هذا معنى الاحتفاء بالعالم الإسلامي وبـ”مراكش عاصمة العالم الإسلامي”.
السيد الوزير بدأتَ السنة بالفلكلور وأنهيتَ السنة بالفلكلور. وأصدقك القول أني أنافح عنك، لأن أحد أصدقائي قال لي، ونحن نتحدث عن هذه الخاتمة الباهتة: “إن الإناء بما فيه يرشح”، فنهرته وقلت له: “احترم الناس، فالرجل رجل أعمال، ويصعب عليه أن يجمع بين أمرين ويمتاز فيهما معاً”. سيدي قلت لك في رسالة الافتتاح، إني سأراسلك بعد الختام، وأنا فعلت، فوعد المؤمن حق عليه.
-
أكاديمي مغربي
0 تعليق