"الذراري الحمر".. القليل من المعلومات والكثير من الشعر - في المدرج

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

عزيزي الزائر أهلا وسهلا بك في موقع في المدرج نقدم لكم اليوم "الذراري الحمر".. القليل من المعلومات والكثير من الشعر - في المدرج

فتيان في مأزق وجودي، وكلب مبتور الأذن يحصل على هجرة إلى كندا، وحصان مخمور، وفتاة قصيرة القامة محبوسة داخل جسد لم تختاره، هذه هي بعض النماذج الدرامية التي حصدت جوائز اليسر العديدة من بين التجارب المشاركة ضمن مسابقة الأفلام الطويلة بالدورة الرابعة لمهرجان البحر الأحمر السينمائي (5-14 ديسمبر) والتي تورط معها الجمهور عاطفياً، واستغرق في حكاياتها المفتوحة على تأويلات شتى عبر شاشات ميدان الثقافة، الذي شهد فعاليات الدورة الجديدة من المهرجان في قلب جدة التاريخية هذا العام.

من بين 8 جوائز أساسية لمسابقة الأفلام، حققت السينما العربية 7 جوائز لخمسة أفلام، حيث فاز الفيلم الفلسطيني "نحو عالم مجهول" للمخرج مهدي فليفل في أولى تجاربه الطويلة بجائزتي أفضل ممثل لمحمود بكري واليسر الفضية، وذلك في عرضه الأول بالشرق الأوسط، كما فاز التونسي "الذراري الحمر" بجائزة أفضل إخراج وأفضل فيلم -اليسر الذهبية- عقب افتتاحه العالمي في مهرجان لوكارنو بدورته الأخيرة.

في حين حققت مصر جائزتين هامتين، هما أفضل ممثلة لمريم شريف في أولى بطولاتها السينمائية بفيلم "سنو وايت" للمخرجة تغريد أبو الحسن، والثانية هي جائزة لجنة التحكيم الخاصة للفيلم الرائع "البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو" إخراج خالد منصور، والذي سبق له المشاركة في مهرجان فينيسيا الدولي قبل شهرين.

في حين تحصلت التجربة الشعرية العراقية المعنونة بـ"أناشيد آدم" للمخرج عدي رشيد، على جائزة أفضل سيناريو، وذهبت جائزة أفضل إسهام فني للفيلم المنغولي "لقتل حصان منغولي" إخراج تاو كيو، وهو الفيلم غير العربي الوحيد ضمن مجموعة الفائزين.

فُتَيان والعالم

يتقاطع كل من "أناشيد آدم" و"الذراري الحمر" في كون أبطالهما فَتَيان في رحلات غريبة، يحوطها الشك والدم والخوف، ويؤطرها السلام المفقود والحاجة إلى أن يعاد ترتيب العالم بأولويات البراءة والرحمة والأمان الروحي.

في "أناشيد آدم"، يتوقف نمو الفتى "آدم" في لحظة معينة حين يقرر من داخله أنه لا يريد أن يموت، بينما يحضر غسل جده وتكفينه ودفنه، ومن ثم يشيخ العالم من حوله بينما يظل هو على طفولته وبراءته وحبه للحياة التي تتلوث في بلد لا يتوقف فيه "العراك" طوال أكثر من نصف قرن، بداية من تعرضه للاحتلال الأجنبي وصولاً إلى حروب واحدة من أقبح أيديولوجيات التطرف الديني "داعش".

وفي "الذراري الحمر" يتعرض "أشرف" راعي الغنم الصغير إلى تجربة دموية، على يد الدواعش أيضاً، حين يجبر على حمل رأس ابن عمه المقطوعة انتقاماً أو ترهيباً ليعود بها إلى قريته، في رحلة تذكرنا برأٍس آخر قطع قبل قرون في معركة أيديولوجية لا تزال آثارها باقية إلى الآن، من أجل أن يتحقق كامل الرعب في قلوب كل آمن أو مطمئن.

كلا الفيلمين يدوران في بلدات بعيدة، معزولة عن مركزية العاصمة أو بطن الأحداث الجسام، لكن بلداتهم لا تخلو من التأثر المباشر سواء بالصراع السياسي أو المسلح، والوقوع الأهم تحت وطأة الوضع الاقتصادي والمادي المتردي أو الخامل، صحيح أن الفيلم العراقي يجرد بلدة الفتى "آدم" بغرض توسيع دائرة الاشتباه الدرامي، ولكن هذا التجريد مقبول بحكم كون الفيلم ينتمي إلى ما فوق الطبيعي، بينما يعتمد التونسي "الذراري الحمر" على واقعة حقيقية كما هو مكتوب في بداية التيترات ومدون في نهايته، وهي حادثة وقعت بالفعل في منطقة جبلية بتونس وبطلها راع غنم قطعت رأسه من قبل الدواعش وعاد بها أخاه إلى بلدتهما، ثم بعد عامين قطعت رأس الأخ هو الآخر بنفس الطريقة -ولا ندري هل وجد من يعود بها أم لا!- وهي الحادثة التي حركت خيال المخرج لطفي عاشور، ودفعته إلى الإمساك بالكاميرا وكتابة فيلمه الشعري المدمم.

يمكن أيضاً أن نشير إلى أن كلا التجربتين تسردهما عينا الفتيان اللتان يملئهما الشغف للحياة، والتوق للانفلات من الأفق الضيق مهما علا الجبل الذي يرعى فيه "أشرف" التونسي الماعز أو اتسع الحقل الذي تسكنه نظرة "آدم" البعيدة، ولكن تصدهما خشونة الوجود، وصيرورة التماهي مع أقدار لم يختاروها، فرضت على أجسادهما الغضة، وأرواحهما التي لن تأمن أبداً إثر التداعي المستمر لعوالمهما الهشة.

حمرة العمر والمسار

تعبير "الذراري" هو تعبير تونسي دارج يعني "الصغار"، الذين لا يزالون دون همة جسدية أو خبرة كافية بالعالم تمكنهم من مواجهة الارتفاعات القياسية في مستويات الأسى والخشونة والعنف باذخ الدم، بلفظة الذراري يجرد "لطفي" أبطاله "أشرف" و"نزار" من الحول والقوة، فهما فتيان على قارعة الجبل يرعان الماعز وينشدان ملاعب طفولية بدائية كعين ماء يغطسان فيها برؤوسهما أو لحظات من مرح الغناء الأجش بأصواتهما التي لا تزال عرضة للتغيرات الهرمونية القادمة.

وبالإنجليزية يأتي اسم الفيلم red path  أي المسار الأحمر، في إشارة إلى تحول لون مسار رعي الأغنام البدائي إلى الأحمر الدامي، عقب تعرض الفتيان لهجوم الدواعش وفقدان نزار لرأسه الملئ بالأحلام الحلوة والعمر الذي ذابت زهرته قسراً.

يأتي السرد كما أشرنا من عينا "أشرف" طوال الوقت، ربما باستثناء مشاهد قليلة التي ينتقل فيها إلى "رحمة" حبيبة "نزار" الفتية التي لن ينهض قلبها الغض من المآساة أبداً، أو كما نراها في النهاية وهي تتهيأ خيالياً لأن يظل خاطر خطبتها من "نزار" مهيمناً على رأسها الصغير كجزء من تعويض الفقدان الذي منيت به في حبيبها المذبوح، لكن حضور "أشرف" المادي والتخاطري مع طيف "نزار" الهائم حوله لا يمنع من تجريد المخرج لوجوه الدواعش بما يتفق مع عنصر التعميم، فهو لا يحدد وجوه ممثلين بعينهم بل لا نرى وجوهاً من أساسه، بل مجرد كيانات وظلال تتحرك بشكلٍ عنيف وشبحي أمام عينا "أشرف" بعد أن هاجموه وابن عمه من الخلف وطرحوه أرضاً وقذفوا رأس ابن عمه المقطوعة أمام عينيه، التجريد هنا يدفع الجمهور إلى تصور القتلة في وجوه كل الدواعش وأشباههم، وهو ما يخلق تأثير مضاعف على نفسية المشاهد.

على المستوى البصري وفيما يخص التوحد مع "أشرف" في مآساته الخارقة، نلاحظ أن الكاميرا تلتصق به بشكلٍ متعمد، حيث نراه في تكوينات ضيقة -لقطات قريبة- لا تشرح لنا فقط هول الرعب على وجهه الصغير وعيناه المذعورتين، بل تعزل العالم كله في خلفيته، حيث تظهر التفاصيل وراء وجه "أشرف" وهي غائمة تماماً، كأن الدنيا انتهت بالنسبة له، أو كأنه مهجور بمفرده في مسار الدم الذي تتساقط قطراته من الرأٍس المحمول في حقيبته أثناء العودة به إلى القرية.

هذه العزلة البصرية التي يفرضها المخرج على "أشرف"، خصوصاً في مسار العودة تخلق قدراً كبيراً من الاستغراق والتوحد الشعوري مع الشخصية التي ستبدأ خلال وبعد الرحلة، ثم في رحلة الرجوع لإحضار جثة "نزار" في الخوض ذهنياً داخل تهويمات شعرية، يملئها شبح "نزار" الحي بالتواصل الروحي، والحضور الطيفي لذكرياتهما سوياً، والتي لم تجف أحبارها في دماغ "أشرف" الصغير بعد.

يفتت لطفي عاشور، رحلة العودة القصيرة بالرأس من الجبل إلى القرية عبر ظهور طيف "نزار"، وتداخلات الماضي مع الحاضر في خطوات "أشرف" المتعثرة في دموعه، ثم يكون اللقاء مع "رحمة" هو أول مواجهة مع المهمة الكابوسية الموكلة إليه، إبلاغ أهل القرية بما حدث لترهيبهم.

في البداية يمنح "أشرف" لحرمة العنزة الصغيرة التي ماتت أمها في انفجار لغم عقب ذبح "نزار"، كأنه يهيئها للخبر، أو كأن روح "نزار" حلت فيها، حيث كانت آخر ما أخذه بين ذراعيه الشابتين، ثم يقفز سردياً فوق اللحظة الميلودرامية الزاعقة حين يبلغ "أشرف" "رحمة" بخبر الذبح، يتجاوز المعلومة المعروفة مسبقاً للمشاهد إلى ما بعدها، التأثر والألم وحرقة الفراق، تماماً كما يفعل مع "أم نزار"، يقفز فوق لحظة الإبلاغ، يتجنب المعلوم والبديهي من ردود الفعل، مقدمات الخبر، صراخ الصدمة الأولى، والإنكار، بل يذهب إلى الأكثر وجعاً واختناقاً.

الشعر يبدأ حين تنتهي المعلومة، هكذا خط تاركوفسكي قانون الشعرية في السينما، المعلومات سهلة، متاحة، ومعروفة سلفاً، لكن ما بعدها، وما ورائها هو ما تُصنع الأفلام من أجله، المعلومات تنسى لكن الشعر أبقى.

الصوت والزمن

يشتغل المخرج على شريط صوت متقشف موسيقياً، يترك أصوات البيئة تشغل حيز السمع لدى المشاهد، قلة الموسيقى تدفع الميلودراما بعيداً قدر الإمكان، بينما تجلب الأصوات الطبيعية للبيئة الجبلية مشاعر الكآبة والفراغ، بل وتدعم الخلفية الواقعية للأحداث، خاصة مع القدر الكبير من الشطح الخيالي لكل من "أشرف" و"رحمة"، يتسرب "أشرف" بعيداً في لحظات كثيرة، لكن الأصوات ترده إلى واقعية اللحظة ودهشتها المسممة، تعذبه الذكريات بدلاً من أن تُسكن ألمه.

وفي خيالاتهم المشتركة، ترى "رحمة" نفسها مع "أشرف" و"نزار"، بينما يتدفق مرحهم الزائل، الغائب بذبح ثالثهم، التواق للعودة بلا أمل، أو كما يصورهم المخرج في لقطة واسعة كأنهما مصلوبان فوق جدران الجبل الصخرية تحت شمس الحقيقة المدماة.

هنا يلعب المونتاج أيضاً على تحرير الزمن شعرياً، لا ندري هل المشاهد المتداخلة مع سرحات "أشرف" و"رحمة" هي لحظات مستعادة من الماضي أم مأمولة بشكلٍ مستحيل في المستقبل -بلغة التقنيات لا ندري هل هي فلاش باك أم فلاش فورورد متخيل- خاصة عند إحضار جثة نزار قرب النهاية، ففي مقابل مشاهد الزفة والرقص في السيارات -كعادة أهل الجبل- وحيث يرقص الجميع وكأنهم يحتفلون بخطبة "نزار" و"رحمة"، نرتد إلى واقع اللحظة، حيث الجسد المسجى فاقد الرأس، والجنازة المتحققة كاملة الأسى.

وبمناسبة اللقطات الواسعة، فثمة ملاحظة تخص التناقض بين الكادرات الضيقة لوجه "أشرف" خاصة في رحلة العودة بالرأس، واللقطات الواسعة للبيئة الجبلية والسهول والبيوت، هذا التناقض يضع المتلقي مقارنات بصرية بين اتساع العالم الذي يمكن أن ينضم الجميع في سلام ودعة وبين محاولات الدواعش ومن على شاكلتهم التضييق على كل أشكال الحياة التي يمنحون لأنفسهم الحق بانتزاعها باسم الله والدين.

تبقى الإشارة إلى أن "الذراري الحمر" يدين الكل في النهاية بنسب متفاوتة، والمقصود بالكل الفقر والتهميش والإهمال الاجتماعي والمركزية وبالطبع الدواعش، فكما لا نرى قتلة "نزار" ولا نرى أيضاً لا الشرطة ولا الجيش ولا أي مسؤول تحرك باتجاه القرية لاتخاذ أي إجراء بخصوص الفاجعة البشعة، بل يظل سر ذبح "نزار" تائهاً بين شكوك الجميع، هل كان مخبراً للحكومة يجمع المعلومات من الجبل حول المختبئين من الجماعات كما يصوره فيديو الذبح! وذلك من أجل المال! أم أنه اعترف بذلك خوفاً من التعذيب، وكان الذبح بغرض الترهيب وإسكات من تسول له نفسه الإبلاغ عن جحورهم العفنة!.

نحن لا نرى الدواعش ولا نرى الحكومة أيضاً، نحن بعيدون في الجبل، وكل ما نسمعه هو صوت طائرة هليكوبتر تحوم! ولا ندري هل تراقب أم تنقل أم تعبر دون اكتراث! وحتى عندما يقرر أهل "نزار" إحضار جثته، يضطرون إلى هذا عبر المسار الدموي لرحلة عودة "أشرف" بالرأس، لأن السلطة غير معنية بحرقة قلوب الأهل على صغيرهم المذبوح وجثته المتروكة في عراء النهش المادي والمعنوي!.

ربما لم يشهد مهرجان البحر الأحمر في دوراته السابقة منافسة قوية وشديدة البأس بين تجارب عربية مفعمة بالشعر والسينما والألم كما شهدتها مسابقته الرئيسية هذا العام، وهو ما يحسب بلا شك إلى القائمين عليه، لكن القيمة الأهم من التنافس، هو المستوى المرموق من الجهد والإبداع الذي حققته الإنتاجات العربية خلال 2024، والتي تضمن لنا أملاً في استمرارية براقة وصاعدة بلا توقف.

* ناقد فني  

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق