ماذا بعد إكمال الدين الإسلامي قرآنا

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

الشهادة في بعدها الفكري

بعد الكشف عن معنى الشهادة لغةً واصطلاحًا، نعود إلى الآية الأولى لنتابع الحديث عن الشهادة في بعدها الفكري، وذلك من طريق تتبع هذه الكلمات الواردة فيها:

يتضح من قوله: “وكذلك” أن المشار إليه هو ما سبق ذكره مباشرة قبل هذه الكلمة، وأعني به قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾، أي على هذا النوع من الهداية: ﴿جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ (تفسير المنار).

أما كلمة “الجعل”، فالذي يظهر أن لها عدة معانٍ، إذ هناك الجعل بالمعنى التكويني الذي لا اختيار للعبد فيه كسائر المجعولات التكوينية، مثل قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ﴾ (الإسراء 12)، وقوله سبحانه: ﴿وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَّحْفُوظًا﴾ (الأنبياء 32). وهناك الجعل بالمعنى الاجتماعي الانتظامي المشوب باختيار العبد في الجملة، كقوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ (الحجرات 13)، وقوله سبحانه: ﴿فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ﴾ (البقرة 65). وهناك الجعل الذي يكون تمام سببه كمال العبد في نفسه بينه وبين الله تعالى، كقوله سبحانه: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا﴾ (السجدة 24)، بمعنى أنهم لما صبروا على الابتلاء صاروا أئمة يهدون.

والذي يتبين من هذه الأنواع أن الأمة، لما كانت قد أُنيطت بها أدوار محددة في دينها ودنياها من أجل الارتقاء بشخصيتها والسمو بها نحو الكمال، كان المراد من “الجعل” هو القسم الأخير، إذ هو المناسب في هذا المقام، مقام الجهاد الفكري في إطار المنهج الوسطي الذي من طريقه تكون الأمة شاهدة على الناس.

أما كلمة “الأمة”، فالذي يظهر من الآية أنها قد تشير إلى جميع الأمة، من أولها إلى آخرها، أي من كان منهم موجودًا وقت نزول هذه الآية، ومن جاء بعدهم إلى قيام الساعة، مثل تكاليف الشرع وأوامره ونواهيه. غير أن لو اعتبرنا أول الأمة وآخرها بمجموعها في كونها حجة على غيرها، لزالت الفائدة، إذ لم يبقَ بعد انقضائها من تكون الأمة حجة أو شاهدة عليه.
ويجوز أن يكون المراد بـ”الأمة” أهل كل عصر، فإن الأمة اسم للجماعة التي تؤم جهة واحدة، ولا شك أن أهل كل عصر كذلك، ولأنه تعالى قال: “أمة وسطًا”، فعبر عنهم بلفظ النكرة، ولا شك أن هذا يتناول كل عصر (مفاتيح الغيب). وبذلك تتحقق الغاية، حيث يكون كل عصر شهيدًا على العصر الذي يليه بهذا المنهج الوسطي الذي جاء به القرآن.

ومن هنا وجدنا الأستاذ الإمام محمد عبده يذكر أن: “هذا الوصف يصدق على الذين خوطبوا به أولًا، وهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين كانوا معه، عليهم الرضوان. فهم الذين كانوا أعداء فألّف الله بين قلوبهم، فكانوا بنعمة الله إخوانًا. وهم الذين اعتصموا بحبل الله، ولم يتفرقوا في الدين، فيذهبوا فيه مذاهب يتعصب لكل مذهب شيعته منهم. وهم الذين كانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وهم المؤمنون بالله ذلك الإيمان الذي استولى على قلوبهم ومشاعرهم، وملك أزمّة أهوائهم، حتى كان هو المسير لهم في عامة أحوالهم” (تفسير المنار).

أما كلمة “الوسط”، فقد ذكر الإمام الرازي أن العلماء اختلفوا فيه على أقوال:

  1. قول يرى أنه بمعنى العدل، واستدل عليه بأنواع من الأدلة: القرآن، والخبر، والشعر، والنقل، والمعنى (انظرها في مفاتيح الغيب).
  2. قول يرى أن الوسط في كل شيء هو خياره، وقال عن هذا القول: “وهذا التفسير أولى من الأول لوجهين: أحدهما، أن لفظ الوسط يُستعمل في الجمادات، ووصف العدالة لا يوجد في الجمادات. وثانيهما، أنه مطابق لقوله تعالى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾.
  3. القول الثالث يرى أن لفظ الوسط بمعنى الأفضل، كواسطة القلادة.
  4. القول الرابع يرى أنه يجوز أن يكون الوسط بمعنى المتوسط في الدين، لا هو مُفرِط ولا هو مُفرِّط، لا هو غالٍ ولا هو مقصِّر. وكذلك هي أمة الإسلام، لا تغلو غلو النصارى فجعلوا المسيح ابنًا وإلهًا، ولا تقصر تقصير اليهود في قتل الأنبياء وتبديل الكتب. ثم يذكر أن هذه الأقوال ليست متنافية بل هي متقاربة.

كذلك يرى الإمام محمد عبده أن الحق سبحانه إنما عدل عن “الخيار” إلى “الوسط”، لأن في لفظ الوسط إشعارًا بالسببية، فكأنه دليل على نفسه، أي أن المسلمين خيار وعدول لأنهم وسط، ليسوا من أرباب الغلو في الدين المُفرِطين، ولا من أرباب التعطيل المُفرِّطين. فهم كذلك في العقائد، والأخلاق، والأعمال (تفسير المنار 2/4).

انطلاقًا من كل هذا، يمكن القول:

إن الأمة المسلمة، لكي تكون مؤهلة للشهادة على الناس، لا بد أن تكون سالكة في تفكيرها هذا المنهج الوسط الذي تتحدث عنه الآية، بل تكشف عنه بجميع أبعاده من طريق كل الكلمات الواردة في الآية:

  • فهي تتحدث عنه كـ”صراط مستقيم” بهذه الإشارة: “وكذلك”.
  • وتتحدث عنه كجامع بين التكوين الإلهي، وبين ما تقوم به الأمة من جهاد في سبيل تقويم فكرها وسلوكها.
  • وتتحدث عنه بكونه، أي المنهج الوسط، يجعل الأمة قادرة على الشهادة به، إذ الشاهد على الشيء لا بد أن يكون عارفًا به. ومن كان متوسطًا بين شيئين، فإنه يرى أحدهما من جانب، والثاني من الجانب الآخر. وأما من كان في أحد الطرفين، فلا يعرف حقيقة الطرف الآخر، ولا حال الوسط أيضًا (تفسير المنار).
  • وأخيرًا، تتحدث عن مرجعية هذا المنهج الوسطي في قوله تعالى: ﴿وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾، أي شهيدًا عليكم بدينه وسيرته.

ما تشهد به الأمة

بعد هذا التشخيص لمفاهيم الكلمات، ولمفهوم الأمة الوسط الشاهدة، ننتقل إلى الحديث عما تشهد به هذه الأمة على الناس. وهنا نجد المجال يتسم باتساع مضامين القرآن ومضامين السنة النبوية الشريفة، باعتبارهما المرجعية في هذه الشهادة، حيث يمكنها أن تكون شاهدة على أولئك الذين لا همَّ لهم في هذه الحياة إلا الانغماس في الملذات الجسمانية، أو على الذين حكّموا تقاليدهم الروحانية الخالصة في حياتهم، فتركوا الدنيا وما فيها من اللذات الجسمانية وراءهم ظهريًا.

تشهد على هؤلاء وأولئك بنحو قوله تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾، وبقوله صلى الله عليه وسلم: “إني أصوم وأفطر، وأنام وأصلي، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني”.

ويمكنها أن تكون شاهدة بمنهجها الوسطي على هؤلاء الليبراليين الذين فتحوا الباب على مصراعيه للفردانية من حيث هي فردانية، دون التفات إلى الجماعة التي لا يمكن للفرد أن يعيش، ولا أن يحقق رغباته بمعزل عنها. فانطلقوا تحت شعار: “دعه يعمل، دعه يمر”، ينظرون لطموحاتهم الغرائزية، فقالوا: “إن استعمال أحد من الأفراد في سبيل خير الآخرين إنما هو استغلال في صالح غيره، لا أكثر ولا أقل”. وقالوا أيضًا: “إن استعمال شخص بهذه الطريقة (طريقة التكافل) ليس فيه احترام كافٍ له من حيث هو شخص قائم بذاته” (انظر الليبرالية وحدود العدالة – مايكل – المنظمة العربية للترجمة). ثم قال أحدهم، معتقدًا أنه قد أصاب المقتل في الاتجاه الجماعي: “إني لأزعم أن الإكراهات الأخلاقية الجانبية حول ما يمكن فعله، إنما هي إكراهات تعكس وجودنا كأفراد منفصلين بعضنا عن بعض. إنها انعكاس لاستحالة وجود موازنة أخلاقية بيننا… إذ ليس هناك ما يسوغ تضحية أحدنا في سبيل الآخرين” (نفسه، ص 131).

أو تشهد على “الجماعتيين” الذين قالوا: “إن الإنسان الفرد مجرد حارس لما يملكه من مواهب أو ثروات، لأن فكرة الحراسة تنفي الملكية الفردية. فالقول إني حارس للمواهب التي أحملها، معناه أن هذه المواهب ملك لذاتٍ ما أخرى، أنمي هذه المواهب وأستغلها باسمها أو بفضلها” (نفسه، ص 173).

تشهد على هؤلاء وأولئك بمثل قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ ۚ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَىٰ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ ۚ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ (النحل 71).
حيث يتبين من الآية أنها تشتمل على مبدأين يبدو أن كل واحد منهما يناقض الآخر. فالأول يقرر أن هناك تفاوتًا في الأرزاق، والثاني يقرر المساواة في الأرزاق بقوله سبحانه: “فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ”. ثم من جهة أخرى نجد في الآية ذاتها أن هناك مبدأ ثالثًا يبين الطريق التي تقع بها المقاربة أو التوفيق بين المبدأين المتناقضين، وهو قوله تعالى: ﴿فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَىٰ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ ۚ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ (النحل 71)، وقوله سبحانه: ﴿وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾، وقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ﴾.

وهذا المبدأ الثالث هو الذي تكون به الأمة المسلمة شاهدة على الليبراليين والماركسيين (شرحنا هذا بتفصيل في مقال سابق بعنوان: في العدالة كهدف أسمى).

ولنزيد الأمر إيضاحًا أكثر، نسوق بعض ما قاله الأستاذ الإمام محمد عبده في تفسير الآية:
“إن الناس كانوا قبل ظهور الإسلام على قسمين: قسم تقضي عليه تقاليده بالمادية المحضة، فلا همَّ لهم إلا الحظوظ الجسدية كاليهود والمشركين. وقسم تحكم عليه تقاليده بالروحانية الخالصة، وترك الدنيا وما فيها من اللذات الجسمانية كالنصارى والصابئين، وطوائف من وثنيي الهند أصحاب الرياضات.”

“وأما الأمة الإسلامية، فقد جمع الله لها في دينها بين الحقين: حق الروح وحق الجسد. فهي روحانية جسمانية، وإن شئت قلت: إنه أعطاها جميع حقوق الإنسانية، فإن الإنسان جسم وروح، حيوان ومَلَك. فكأنه قال: جعلناكم أمة وسطًا، تعرفون الحقين، وتبلغون الكمالين لتكونوا شهداء بالحق على الناس، الجسمانيين بما فرّطوا في جنب الدين، والروحانيين إذ أفرطوا وكانوا من الغالين.”

“تشهدون على المفرطين، القائلين بالتعطيل: ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ﴾ (المؤمنون 37)، بأنهم أخلدوا إلى البهيمية، وقضوا على استعدادهم بالحرمان من المزايا الروحانية. وتشهدون على المفرطين بالغلو في الدين، القائلين: إن هذا الوجود حبس للأرواح، وعقوبة لها، فعلينا أن نتخلص منه بالتخلي عن جميع اللذات الجسمانية، وتعذيب الجسد، وهضم حقوق النفس، وحرمانها من كل ما أعده الله لها في هذه الحياة. تشهدون عليهم بأنهم خرجوا عن حياة الاعتدال، وجنوا على أرواحهم بجنايتهم على أجسادهم وقواها الحيوية.”

“تشهدون على هؤلاء وأولئك، وتسبقون الأمم كلها باعتدالكم وتوسطكم في الأمور كلها. ذلك بأن ما هُديتم إليه هو الكمال الإنساني الذي ليس بعده كمال، لأن صاحبه يعطي كل ذي حق حقه، يؤدي حقوق ربه، وحقوق نفسه، وحقوق ذوي القربى، وحقوق الناس.” (تفسير المنار 2/5).

أما قول من ذهب إلى أن شهادة هذه الأمة بأولها وآخرها على الأمم، فهو قول ربما يكون القصد منه أن الشهادة التي تحصل في الآخرة لن تكون إلا تابعة لما حصل في الدنيا. بمعنى أن الأمة إذا قامت بهذه الشهادة على نفسها، وعلى غيرها في الدنيا، ثبتت لها في الآخرة. وإذا لم تقم بها في الدنيا، لم تثبت لها في الآخرة. فالشهادة لهذه الأمة على غيرها مرهونة بالجهاد الفكري في سبيل إعلاء كلمة هذا الدين ونشره بين الأمم في دنيانا بلاغًا وبيانًا.

الشهادة في بعدها العملي (سنتحدث عن هذا البعد في مقال لاحق.)

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق