صدر عن معهد الشارقة للتراث بالإمارات، كتاب “الخيمة في الصحراء الأطلنطية دراسة إثنوغرافية”، الذي يقع في 237 صفحة من القطع المتوسط، للدكتور رحال بوبريك، الباحث في الأنثروبولوجيا والتاريخ، الطبعة الأولى 1445 هـ / 2024 م / الشارقة.
وفي مقدمة الناشر يقول الدكتور عبد العزيز المسلم: “من هنا نبدأ، من هذه الإصدارات النزعية التي نحتارها لكم بعناية، كي نرسم طريقًا واضحًا للثقافة الشعبية، إصدارات ديدنها الثقافة، وفحواها المعارف التقليدية، وميزتها الولوج إلى القلب دون تكلف أو تجهم…”
وفي نفس الصدد يضيف رئيس معهد الشارقة للتراث: “بحفظ أدبنا الشعبي وتقاليدنا، ومعارفنا الشعبية وتوثيقها، فإننا نصون التراث، وبذلك تترسخ مبادئ الهوية الوطنية، وتتنامى في الروح والوجدان، فنحفظ الهوية، وهذا هو شعار معهد الشارقة للتراث (نصون التراث.. نحفظ الهوية).”
الخيمة في اللغة العربية
يشير الدكتور رحال بوبريك إلى أن الخيمة تُسمى في اللغة العربية “بيت الشعر”؛ فهي مصنوعة أساسًا من شعر الماعز، أما حواشيها فتنسج من وبر الإبل، مما يعطي الخيمة لونًا أسود يميل إلى البني، وهي التي تُسمى خيمة الشعر، وفي الأدبيات الأجنبية: الخيمة الداكنة (La tente noire). وتوجد بالفعل أنواع عدة من الخيام، ولكن الخيمة موضوع دراستنا هي “خيمة الشعر” التي ظهر استعمالها بالمشرق العربي، لذلك تسمى أيضًا: “الخيمة العربية” قصد تمييزها عن الأنواع الأخرى المنتشرة في آسيا وإفريقيا لدى شعوب الرحل.
ويبرز الباحث الأنثروبولوجي أننا لا يمكن أن نختزل الخيمة في مظهرها المادي الهندسي، أو عدّها مسكنًا بسيطًا يحمي من البرد والشمس، أو مكانًا للأنشطة الاقتصادية. فهي، وإن كانت فعلاً تمثل وحدة اقتصادية عائلية يشرف عليها رب الأسرة، إلا أن دورها يتجاوز الجانب الاقتصادي المحض. صحيح أن الخيمة عبارة عن مسكن مادي، لكنها تنطوي كذلك على عالم اجتماعي ورمزي. إن دراستنا للخيمة ليست محض وصف للعناصر والمعدات والتقنيات المستخدمة في صنع الخيمة بصفتها سكنًا متنقلًا، بل تتوخى الوقوف على ماهية وجوهر حياة ونمط عيش الترحال في الصحراء، والذي لا يمكن اختزاله هو أيضًا في مظهره المادي. إنه نتاج لتكيف الإنسان مع الشروط الطبيعية التي تمثلها الصحراء.
دخول خيمة الشعر إلى الصحراء
يؤكد الدكتور رحال بوبريك أن دخول وانتشار خيمة الشعر في الصحراء الأطلنطية يعود إلى زمن وفود القبائل العربية المعقلية إلى الصحراء، قادمة من المشرق العربي ابتداءً من القرن 14م. وقد استقرت في بداية أمرها في شمال إفريقيا، قبل أن تبدأ بعض مكوناتها التنقل نحو الصحراء جنوبًا. قدمت القبائل العربية الوافدة على إفريقيا الشمالية من شبه الجزيرة العربية…
وعطفًا على ما سبق، يشير الباحث الأنثروبولوجي بوبريك إلى أن الخيمة كانت حاضرة في روايات بعض النصوص الأجنبية منذ القرن الخامس عشر الميلادي. إذ يلاحظ البرتغالي غومس آينز دي زورارا (1453) استخدام سكان هذه المنطقة (خيام الصوف أو القماش). فهو يتحدث عن نمطين من السكن بالنسبة لقبائل الصحراء الأطلنطية: الذين يقطنون على السواحل وهم الصيادون آزناكة (صنهاجة)، يعيشون في قرى مكونة من (منازل من القصب)، أما ساكنة الداخل المكونة من الرحل العرب وآزناكة (صنهاجة)، فيعيشون في (خيام الصوف أو القماش).
يشير رحال بوبريك إلى أن التأثير العربي كان واضحًا فيما يتعلق بأسماء معدات خيمة الشعر، إذ إن القبائل العربية تبنت أدوات محلية. فمعجم الأواني وأدوات الحياة اليومية مشتق من اللغة الأمازيغية لدى البدو الرحل الذين يتكلمون الحسانية (اللهجة العربية المتداولة في الصحراء الأطلنطية). جزء من أدوات صناعة الخيمة وأثاثها وأواني الطبخ مصدره أمازيغي؛ مثل: اغرشال، امشقب، تاسوفره، أصرما، تازيا.
وحملت قبائل معقل في رحلتها الطويلة من المشرق خيامها وقليلًا من الأواني والأثاث. وأينما حلت، تبني خيامها وتستعمل الأدوات والأواني والأثاث المحلي للمنطقة التي سكنتها. فعندما وصلت إلى الصحراء الأطلنطية، لم تغير السكن، بل كيفته مع بيئة الصحراء البسيطة.
المكونات الرئيسية للخيمة هي: الفلجة، ظُلَّة الخيمة، الأوتاد، والجبال.
يبين الدكتور بوبريك أن من بين كل أنواع الخيام المختلفة (من بينها تلك التي تُصنع من جلد الحيوان أو ألياف الشجر أو القش)، فرضت خيمة الشعر نفسها بصفتها نموذجًا في الغرب الصحراوي. وظُلة هذه الخيمة مصنوعة أساسًا من شعر الماعز ووبر الإبل. نستعمل مفردة “ظُلة” للإشارة إلى قطعة الخباء التي تشكل أهم عنصر في الخيمة، لأن هذه الأخيرة تتكون بالإضافة إلى الظلة من أعمدة وأوتاد وحبال وعناصر أخرى سيأتي ذكرها.
تتكون الظُلة من ثمانية إلى تسعة أفلاج أو فلجة (مفرد فليج)، وهي قطع من النسيج السميك مستطيلة الشكل مصنوعة من خليط من شعر الماعز ووبر الإبل. وتختلف كمية كل مكون حسب المناطق. فإذا كان الرحل يملكون قطيعًا كبيرًا من الماعز يكفيهم لتوفير ما يحتاجونه من الشعر، فإنهم يعتمدون عليه أكثر من وبر الإبل، كما هو حال الرحالة الجمالين في منطقة تيرس جنوب الصحراء، حيث يشكل وبر الإبل نسبة كبيرة من الصوف الذي تنسج منه الخيمة. علما أن شعر الماعز أكثر مقاومة لأحوال الطقس المتقلبة، وأكثر تحملًا لأعراض التنقل الدائم للرحل، لذلك فالخيمة المثالية هي خيمة منسوجة من شعر الماعز الخالص، ويغلب عليها السواد، أما تلك التي تُنسج من وبر الإبل فتميل إلى اللون البني.
يختلف حجم الفليج وفقا لعاملين: الوضع الاجتماعي لمالك الخيمة، وعدد أفراد أسرته. فكلما كان حجم الفليج كبيرًا في الطول، كان حجم الخيمة أكبر.
يكمل الدكتور بوبريك أنه بالإضافة إلى الفلجة، تتكون الخيمة من أدوات خشبية تمثل هيكل بنائها. يتم نصب الخيمة بواسطة دعامتين رئيسيتين تُسمى “اركايز” (مفرد: اركيزة)، وهما عمودان طويلان (من ثلاثة إلى أربعة أمتار حسب حجم الخيمة)، مصنوعان من خشب شجرة الطلح، ويتم نصبهما على شكل هرم. كما يدل الاسم، يشكل “اركايز” الهيكل الذي يرتكز عليه بنيان الخيمة.
إضافة إلى “اركايز”، توجد ثلاثة أعمدة (حوالي 1.5 متر)، ترفع مقدمة الخيمة (الباب أو الفم). اثنان منها يقعان على الجانبين الأيسر والأيمن (البيبان) لتثبيت الباب، والثالث في الوسط ويُسمى “المسك”. تُثبت هذه الأعمدة الثلاثة في حلقات معدنية تُسمى “حلك” (جمع: الحلكات)، مثبتة في “لمطنبة” بواسطة شريط صغير الحجم يُدعى “طريكة”.
على الواجهة الأمامية للخيمة، في مستوى الركيزتين، توضع قطعة خشبية مقوسة (ما بين 20 و30 سم) بها تجويفتان تُسمى “الحمار” (جمع: حمامير)، تُثبت بها الأطراف العلوية للركائز.
نصب الخيمة وطيّها أثناء الترحال
يشير الدكتور بوبريك إلى أن الخيمة مسكن متنقل يتسم بالبساطة والسهولة في البناء والتركيب والنقل. عند الانتهاء من خياطة الفلجة، تختار المرأة المكان المناسب لنصب الخيمة (“المنزل”)، وبمساعدة نساء أخريات أو رجال، تحمل القطعة الكبيرة المنسوجة فوق الأعمدة، ثم تُمدد الأطراف وتُدق الأوتاد، وتُشد الحبال التي تثبت “الخوالف” و”الظهرة”. تكون خوالف الأركان الأربعة أطول من تلك الوسطى. في هذه المرحلة، لا تُشد الحبال بقوة.
الرجال الذين لم يشاركوا في صناعة الخيمة – باستثناء “الزز” – يساهمون في عملية نصبها. رفع الخيمة إلى الأعلى يتطلب تعاون الجميع ومشاركتهم.
يؤكد الدكتور بوبريك أن حياة البدو تقوم على الترحال الدائم بحثًا عن الكلأ والماء، فهم يُطلق عليهم اسم “أولاد المزن” (السحاب) أو “أبناء السحاب”. يتحركون وفق نظام محكم في التنقل عبر المجال، حيث يكون الترحال منظّمًا وليس عشوائيًا.
رب الأسرة أو شيخ العشيرة أو القبيلة – حسب وحدة الترحال – هو الذي يقرر أوقات التنقل للبحث عن المراعي أو الآبار بناءً على المواسم والظروف الأمنية.
بسبب الترحال الدائم، فإن الخيمة تخضع باستمرار لعمليات البناء والتفكيك وإعادة البناء. عملية تفكيك الخيمة (“طيح الخيمة”) تبدأ بجمع الرجال للقطيع، بينما تقوم النساء بتفكيك الخيمة، حيث يشرعن في جمع الأثاث الداخلي، ونزع “لكف”، ثم إنزال الركائز وسحب الأوتاد. بعد ذلك، تُطوى الخيمة ومعها الأعمدة الخشبية، وتُحمل على ظهر الجمل المُخصص لهذا الغرض (“جمل الدبش”).
“بيت” من الداخل
يبرز بوبريك أن فضاء الخيمة الداخلي ينقسم إلى مجالين: فضاء مخصص للنساء والأنشطة المنزلية، وآخر ذكوري مخصص للرجال والضيافة. يقع الفضاء الأنثوي في الجانب الأيمن من الخيمة (بالنسبة للجالس داخل الخيمة متجهًا نحو الباب)، والفضاء الذكوري في الجانب الأيسر. تجسد ركائز الخيمة حدودًا بين فضائين من نفس الحجم، وقد يُسدل ستار من قماش (حجبه) يُسقط عند الضرورة، كي تباشر النساء أنشطتهن بعيدًا عن أعين الرجال الغرباء. أحيانًا تُنصب بنية داخل الخيمة مخصصة للنساء، كي يحتفظن بحميميتهن، خاصة إذا أنجبت المرأة للتو أو حل ضيوف بالخيمة.
بعد بناء الخيمة، يتم ترتيب الأثاث والمتاع (الدبش) وفق نظام يخضع لهذا التقسيم. تُفرش الخيمة بحصيرة من سعف مضفور بنبات ينمو قرب أماكن تجمع المياه، يُسمى “السمار”. تُرتب في فضاء الخيمة الخاص بالزوجة أواني المطبخ (“الماعن”) والأثاث، وأهمه “الرحل”، وهي قطعة خشبية تُوضع فوقها الأغطية مثل الفرو، الكطيفة، والزرابي.
إذا استثنينا الأواني التي تُستخدم في الطهي فوق النار (المرجن، البراد، والمقرج)، فإن معظم الأواني مصنوعة من الخشب أو سعف وألياف النباتات التي تنمو في الصحراء (الأوعية، الكدح، الحمارة). أما الأوعية المصنوعة من الجلد، فتشمل: تاسوفره، أصرما، تازايا، الظبيه، الشكوة، والمزود.
يعدّ “الرحا” (مطحنة من حجر) من أهم المعدات التي يجب أن تتوفر في الخيمة، حيث تُستخدم لطحن حبوب الشعير والقمح، وهما المادتان الرئيسيتان للغذاء إضافة إلى اللبن. بعد طحن الحبوب، تقوم ربة الخيمة بغربلة الدقيق لاستخراج “الدشيشة” للعصيدة والكسكس، فيما يُستخدم الدقيق للخبز. تُحضّر أيضًا حبوب تُقلى وتُؤكل (“الكلية”) أو تُستخدم لصنع أكلات مثل “البلغمان” و”الزميت”.
تمثيل اجتماعي ورمزي
في هذا الباب، يؤكد الباحث الإثنوغرافي بوبريك أن الخيمة هي الفضاء الذي يُعاش ويُمارس فيه عالم البداوة، وهي التي تُشكّل وحدة الترحال (مجموعة الخيام “الفريك”)، وتبعث الروح والحياة في الصحراء الشاسعة والفارغة. تمثل الخيمة تجسيدًا للحضور البشري الذي يتناقض مع حياة التوحش والخطر في الفراغ الطبيعي.
في الحسانية، يُقال “لعمارة”، التي تعني الوجود البشري مقابل الخلاء، وهو مفهوم يشير إلى توطين الأرض وملئها بالحياة. يُشتق مفهوم العمران من “عمارة الأرض”، حيث تعني “العمارة” لغويًا الحضور في المكان. وبالتالي، فإن إعمار المكان يتم بالحضور البشري، وليس بتعبيرات فنية في البناء.
في سياق الصحراء، يكتسب الحضور البشري معنى موازٍ لبناء المدن وإبداعات فنون العمارة في الثقافات الأخرى. تواجه ساكنة الصحراء مشكلة الحرارة اللاهبة، التي تُعد التحدي الأكبر، لذلك أصبحت الخيمة العربية حلًا بسيطًا وفعالًا: سقف من خباء على أعمدة شجيرات صحراوية.
رمز اجتماعي وثقافي
يضيف بوبريك أن الخيمة ليست مجرد مأوى، بل هي عمارة الإنسان للصحراء. ويرتبط “الخلاء” بالفضاء الفارغ من البشر، وهو فضاء يُعتقد أنه مليء بالأرواح الشريرة أو “الجن” (ويُسمون في الحسانية “أهل لخلا”). تتجاوز الخيمة هذا البعد المادي البسيط بوصفها مأوى، إذ تحمل أبعادًا رمزية واجتماعية وثقافية.
تُعد الخيمة تمثيلًا (representation) اجتماعيًا وثقافيًا ورمزيًا، إذ تعكس تمثلات الإنسان للعالم. يبدأ هذا التمثيل من إسقاطات الجسم البشري على مكونات الخيمة: فم الخيمة (الباب)، ظهر الخيمة، وغيرها.
يرى الباحث أن هذا الإسقاط يمتد أيضًا إلى المجال الطبيعي المحيط، حيث تُطلق تسميات مستوحاة من جسم الإنسان على التضاريس: كلب (مرتفع على شكل قلب)، فم الواد (مصب الوادي)، الذراع (منبسط)، الظهر.
يرى التقليديون أن هذه التسميات تخلق وسائط بين الإنسان وعالمه الخارجي. فكل علاقة تواصل تمر عبر الجسد، كما أوضح محمد بوغالي في دراسته عن تمثل المجال لدى المغاربة الأميين. يسقط الإنسان التقليدي أسماء أعضائه على مجاله القريب، مثل: رأس الدرب، فم الدار، صدر البيت. هذه العلاقة بين الجسد والمجال تُمكّن الإنسان من التفاعل مع بيئته بطرق تعكس ثقافته ونظام تفكيره.
0 تعليق