الهوى سلطان.. كيف تصنع فيلماً عن العاديين في الحكايات العادية؟ - في المدرج

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

عزيزي الزائر أهلا وسهلا بك في موقع في المدرج نقدم لكم اليوم الهوى سلطان.. كيف تصنع فيلماً عن العاديين في الحكايات العادية؟ - في المدرج

في البداية دعونا نحدد المرحلة العمرية الخاصة بـ"علي" و"سارة" بطلا فيلم "الهوى سلطان" تأليف وإخراج هبة يسري، والتي يمكن أن تكون فيما بعد منتصف الثلاثينيات، بمعنى أن الشخصيات الرئيسية، التي يقدمها أحمد داود في أداء شفاف يمس القلب، ومنة شلبي في هيستيرية منضبطة، مولودة تقريباً في الثمانينيات، وهذا التحديد ليس افتراضي بحت، ولكن المشهد الذي يجلس فيه "علي" و"سارة" مع "أم علي" في المطبخ حيث تجتر المرأة ذكرياتها عن السفر للكويت مع "أبو علي" يجعلنا نضع أيدينا زمنياً على موقع علي وسارة من تقسيمات الأجيال المعلنة مؤخراً.

ورغم البساطة الظاهرية في صورة الفيلم، خاصة على مستوى اختيار زوايا الكاميرا، أو حجم الكادرات، أو قدرة النور والظل على تفاصيل الحكاية، والاكتفاء ظاهرياً أيضاً بالحوار كأداة أساسية في السرد حتى على مستوى استحضار الماضي وتفاصيل رحلة العمر المضفورة فيما بين الشخصيات، إلا إن هذا لا يمنع من وجود زخم بصري لا بأس به مبطن وحاضر في غالبية المشاهد كجزء أساسي من حكاية الحب الذي يفرض سلطانه بشكلٍ قدري، مهما حاولنا أن نقاومه.

يمكن اعتبار سيارة "علي" التويوتا موديل أوائل الألفينات ومطبخ شقتهم المليء بالتفاصيل المصرية الخاصة بالطبقة المتوسطة شبه العليا، والشقة التي تسكن بها "سارة" بجفافها العاطفي واللوني الواضح خصوصاً في النصف الأول من الفيلم، والكومودينو الذي يعلوه الجلسرين والفيتامينات النسائية، وشاليه منطقة أبو تلات في العجمي بأحجاره الضخمة وكنباته الصخرية، كل هذه التفاصيل وأكثر، هي جزء مهم من الحكاية وأساسي على مستوى اللغة السينمائية.

نحن لسنا فقط أمام مرحلة عمرية معينة ولكن شريحة اجتماعية أيضاً لها خصوصيتها المتلاشية بحكم الأزمة الاقتصادية الطاحنة، والاتساع المطلوب في الخطاب الموجه لها كفئة أصبحت أقل حضوراً على الشاشة بعد السيطرة الطبقية التي أحكمتها السطحية والتفاهة على مستوى الإنتاج التجاري العام في السنوات الأخيرة، ونعني إما طبقة الكومبوندات أو الشرائح المحسوبة على الطبقات الشعبية وسكان العشوائيات.

التحديات الثلاث

"علي" و"سارة" شابان عاديان جداً، لا مواهب ولا خبرات حياتية عظيمة ولا أهداف كبرى ولا مشاريع مكتلة الأحلام، يومهما بسيط في وظائفهما غير الواضحة من شدة عاديتها، وهي تفصيلة تحسب لذكاء السيناريو، فنحن لا نعرف تحديداً ماذا يعمل كل منهما، هما مجرد موظفين أو هما الموظفين بالتعريف المحدد للكلمة في نشاطها اليومي وخفوتها المهني ومللها الوجودي.

"علي" نفسه يعترف بذلك لـ"سارة" في لحظة مواجهة لطيفة بينهما حين لا يعود يفهم سر الشرارة التي تلمع بينهما في تورطهما الحياتي الكامل ببعض.

اعتراف حائر، من شخص غير قادر على التعبير عن مشاعره، بلغة بسيطة سلسلة لا تحتوي على أي خيال مبتكر أو شطحات شعرية، مجرد شاب عادي يبوح بحيرته لصديقة عمره العادية في سيارته العادية أسفل بيتها العادي.

يمكن اعتبار الشريحة العمرية والطبقة الاجتماعية والحالة العادية، ثلاثة تحديات كبرى واجهتها هبة يسري في صياغتها للحكاية التي لو أردنا تلخيصها فسوف تظهر بصورة نمطية إلى حد كبيرة.. صديقان منذ الطفولة يكتشفان في لحظة القرارات الحاسمة أنهما يملكان في علاقتهما الطبيعية حب العمر الاستثنائي والفريد.

التحديات الثلاث بالمناسبة هي حجر زاوية أساسي في مشروع هبة يسري، منذ أن أنجزت مع نادين خان وآتين أمين مسلسلهم الأيقوني "سابع جار" قبل بضعة سنوات، حتى أن متابعي المسلسل يمكن أن يراودهم بسهولة ذلك الشعور بأن حكاية "علي" و"سارة" هي حبكة فرعية ضمن خيوط "سابع جار" المتشعبة والعديدة، ليس فقط على مستوى السردية ولكن الأسلوب نفسه، المشاهد الحوارية الطويلة التي تبدو جزء من سيرة الحياة وسريانها دون تدخل درامي أو تكثيف زمني أو اشتباك مع التأويلات المتعددة أو المفرطة.

هناك مشاهد في الفيلم يكاد يكون زمنها على الشاشة هو نفس زمنها الطبيعي لو أنها انتقلت إلى بيئاتها الواقعية، قاعة السينما أو سيارة "علي" أو جلسة في كافية، وهذا أيضاً تحدِّ رابع خاضته يسري بهدوء وبلا تكلف، أن تحافظ على جاذبية المشهد وعملية انتقال المعلومات عن تاريخ الشخصيات وطرح أسئلة الحاضر والإرهاص بما هو آت من حيرة متسللة، مع زخرفة الحوار بإفيهات تعكس مخيلة الشخصيات، وتكوينها الثقافي، وتصنع لازمة حميمية تخصهما عبر تكرار سؤال علي لسارة "بتحبيني أكتر ولا..."، هذا المطرب أو الممثل أو لاعب الكرة، كل هذا دون أن يتسرب الملل إلى ذاكرة المتلقي القصيرة، التي يشاهد الفيلم من خلالها وينعكس عليها مقياس تورطه في الأحداث وتوحده مع الشخصيات أو انفصال وعيه في المقابل ونفوره الدماغي من رتابة الإيقاع أو ضحالة المشاعر وسطحية المعلومات.

بهاء الهوى سلطان

تمثل البيئات الصوتية في الفيلم، جزءاً أصيلاً من السردية التي تلوكها الحكاية على مهل، فالفيلم يبدأ من أبعد نقطة بين علي وسارة، في بناء دائري لطيف، وكأن بعدهما العاطفي الواضح في الفصل الأول ما هو إلا قمة اندماجهما الشعوري سوياً، ولكن دون اعتراف أو وعي، ثم تدريجياً تبدأ رحلة اكتشاف هذه الحقيقة المطموسة والفطرية بسبب التوحد الشديد، كأن فطرتهما أن يكونا سوياً.

خلال هذه الرحلة الطويلة جداً ما بين نقطتين لا تفصل بينهما سوى قُبلة المصعد الكاشفة، بينما ينتظر "يحيى" خطيبته الخارقة، وتنتظر "سارة" حبيبها المفترض "الدكتور رامي" تصاحبنا مجموعة من أغنيات الثمانينيات والتسعينيات الحلوة، الحية، الملونة بالنوستالجيا والطيبة الشعورية والحميمية الأثيرة، ليس فقط لدى جيل علي وسارة، ولكن حتى لدى أجيال الكبار أو الجيل التالي لهما من أطفال الألفية الملعونة بالتكنولوجيا الخشنة والساحل الشرير.

من بين كل مطربي نهاية التسعينيات، تختار هبة يسري بهاء سلطان تحديداً، هذا المطرب صاحب اللون المميز جداً في موسيقى البوب الشعبي، والألحان الشرقية ذات الجماليات الطربية المندثرة، والكلمات الحارة بلا ابتذال والصوت الذي يكفي سماعه لاستدعاء فجر الألفية بأكمله، حتى أن "علي" معلناً في محبة شديدة "أنا نفسي أكون بهاء سلطان"، وهو توحد شعوري ونفسي أصيل مع صوت الزمن الذي يرتبط لدى "علي" بكل تفاصيل حكايته مع "سارة" وحبهما الباطني وغير المعلن من قبل الوعي أو الإدراك الواضح.

هنا يمكن أن نتوقف أمام الجناس المجازي بين عنوان الفيلم "الهوى سلطان" وهو اسم الأغنية الشهيرة لسلطان الطرب "أبو وديع" وبين المطرب المفضل لدى كل من علي وسارة بهاء سلطان، هذا الجناس المجازي يتخذ شكل حميمي جداً كلما تدفقت الحكاية في صعودها نحو المصارحة والوعي، يمكن أن تطلق عليه "بهاء الهوى سلطان".

فثمة بريق حقيقي يشع من عادية الحكاية التي يعترف بسببها شابين أن الهوى/المحبة لها سلطان من غير الطبيعي أن نقاومه أو ننشغل عنه بآخرين مهما زاد بهائهم، كالخطيبة والطبيب العاشق، لأن ثمة بهاء آهر يحتوي كامل القصة منذ بدايتها البعيدة، هذا البهاء المتمثل في الاندماج الرهيب بينهما حين يسمعان بهاء سلطان يغني أو ينتظران أغنية جديدة له، هي نفسها اغنية الفيلم.

هذا الفيلم ليس مرثية لجيل، بل هو وثيقة يمكن دراستها اجتماعياً ونفسياً لقراءة جانب من المشهد الإنساني والشعوري والتاريخي لواقع متغير وحاضر يزداد قتامة وسوء، وثيقة لا تهتم بالفلاش باك ولا الكادر المائل ولا الظلال المخفية خلف ستائر الروح، بل تحكي حدوتتها ببساطة الوقوف على كوبري أكتوبر وتبادل اطراف الحديث بين عاشقين لا يملكان سوى بضع أغنيات قديمة، وإفيهات معاد تدويرها من أفلام ودودة، ومحبة غير مفهومة لميلودراما فائرة مثل (ليلة بكى فيها القمر).

يقول ماركيز، إذا كانت لديك حكاية جميلة فحاول أن تحكيها ببساطة، وهو ما فعلته هبة يسري في أولى تجاربها، لقد منحت العشاق الواقفين على النيل حكاية افتراضية يسهل تذكرها كلما مررنا بهم.

* ناقد فني

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق