مما لا شك فيه أن الترجمة تقوم بدور كبير، في نقل الثقافات المختلفة بين الحضارات، من لغة إلى أخرى؛ سواء بهدف التبادل أو الاطلاع على ثقافة الآخرين ومنجزاتهم أو الاقتداء بثقافات أخرى أو البداية من حيث انتهى الآخرون أو النقل والإضافة، بعد التنقيح والتعديل، كما أنها أداة فاعلة في التواصل بين الشعوب، وفي عالم التطور الرقمي والتكنولوجي تسهم في نقل الأخبار بسرعة فائقة، وربما في نفس لحظة الخبر أو الحدث، وفي الناحية العلمية أو البحثية تساعد في نقل المعلومات من مصادرها أو من مصادر مختلفة، كما أنها تقدم في مجال السياحة فرصة للتعرف على الأماكن السياحية والعادات والتقاليد، فضلا عن إمكانية توفير فرصة عمل، في دولة من الدول أو الحصول على منح دراسية أو استكمال العملية التعليمية في الخارج، بل يمكننا أن نقول إن الترجمة تسهم في حفظ السلام العالمي، من خلال صياغة البروتوكولات ومذكرات التفاهم والتعاون بين الدول والمعاهدات بين الدول، وتقريب وجهات النظر بوجه عام؛ سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا ودينيا، بل نستطيع أن نقول بأن مفهوم الأمية يجب ألا يقتصر على عدم معرفة القراءة والكتابة فقط، بل يجب أن يتسع ليشمل عدم معرفة اللغات الأخرى معرفة جمعية وليست فردية فقط؛ فالترجمة هي الطريق إلى العالمية، وسبيل مهم وضروري لإثبات الذات وتحقيق الوجود الفعلي.
وأما فيما يتعلق بحركة الترجمة، فإن للخليفة العباسي المأمون دورا كبيرا ذكره التاريخ، في الاهتمام بالترجمة، حتى عد عصره أزهى عصور بيت الحكمة، وإن كانت هناك جهود سابقة على جهوده؛ بدءا من الخليفة العباسي هارون الرشيد ومن ولاه، لكننا سنتوقف عند دور الخليفة المأمون في بيت الحكمة عام 830م، أو لنطلق عليه مركز أو مؤسسة أو أكاديمية بيت الحكمة، والتي تضم بين جنباتها خزائن الحكمة المختلفة، من فكر وعلم وثقافة، من مختلف الحضارات، والتي صارت مفخرة من مفاخر العصر الذهبي، فجذبت الألباب، وأبهرت العقول، وملكت الأفئدة، وهو شأن كل عمل قومي، يلتف حوله المتخصصون والمشتغلون فيه والمؤمنون بقيمته وأهميته، هذا فضلا عن دعم ومساندة الخليفة المأمون لهذا المشروع الضخم، بل وتشجيع العاملين فيه وزيارتهم والاطلاع على ما يقدمونه ومناقشتهم في إنتاجهم وأبحاثهم، فضلا عن وجود فريق عمل منظم يعمل كخلية النحل، لا يكل ولا يمل، ويستمر في البحث والتنقيب، في خزائن الكتب؛ فصار بيت الحكمة مركزا للبحث العلمي والترجمة والتأليف والنسخ والتجليد والقراءة، ولكن لكل شيء إذا ما تم نقصان، فبعد ازدهار كبير ونشاط علمي وثقافي غير مسبوق، يأتي الهجوم المنغولي 1258م؛ ليقضي على الأخضر واليابس، ومن ذلك خزائن بيت الحكمة، التي انتهت بإلقائها في نهر دجلة.
ورغم هذه النهاية المأساوية، فإن الأمة سرعان ما تتعافى، وتعاود نشاطها، بعد كبوت مرت بها، حتى نرى حركة نشاط كبيرة، تعيدنا إلى العصر الذهبي للترجمة، على يد رفاعة رافع الطهطاوي (1801- 1873م)، الذي سافر إماما مع البعثة المصرية إلى فرنسا، وهناك اجتهد ودرس اللغة الفرنسية، وعاد بعد خمس سنوات 1831م، وقد اكتملت لديه أدواته في الترجمة؛ فاشتغل في الترجمة في مدرسة الطب، ثم فكر في إنشاء مدرسة الترجمة (الالسن فيما بعد)، وبدأ الاهتمام بالنشاط الثقافي والتعليمي، بين الترجمة والتدريس والإشراف والمتابعة والتجديد، فضلا عن إنشاء أقسام خاصة باللغات، واستصدار قرار بتدريس المعارف والعلوم باللغة العربية، وكذلك إصدار جريدة الوقائع المصرية باللغة العربية بدلا من اللغة التركية، فضلا عن الترجمات التي تركها بجانب إشرافه على مشروعات الترجمة، ولكن دوام الحال من المحال، والدنيا لا يبقى لها على حال؛ فقد نفي إلى السودان عام 1850م، وحين عاد بعد النفي عاود نشاطه من جديد، بين الترجمة والإشراف حتى وفاته المنية سنة 1973م.
ولكن حركة الترجمة لا تتوقق، وتستمر، وتظهر الجهود الكبيرة التي قدمها عميد الأدب العربي طه حسين، في الترجمة، بعد عودته من فرنسا عام 1919م؛ سواء ترجمة الكتب عن اليونانية مباشرة أو عن الفرنسية، فضلا عن ظهور ترجمات أخرى للمشتغلين بالترجمة، في مصر، إلى أن تبنى الدكتور جابر عصفور، وكل من آمن بأهمية الترجمة من المسؤولين، في ذلك الوقت، استكمال مشروع السابقين في الترجمة، بصورة مؤسسية من بداية إنشاء المشروع القومي للترجمة، داخل المجلس الأعلى للثقافة، ثم الانتقال لإنشاء المركز القومي للترجمة (الموازي لبيت الحكمة)، داخل دار الأوبرا المصرية، برئاسته وإشرافه، حتى عام 2011م، وقد ذكر بأنه وقع العقد (3000)، قبل أن ينتقل إلى موقع ثقافي آخر، ولا شك أن هذه المرحلة التي نفذت تحت قيادته، كانت من أزهى عصور الترجمة المؤسسية حديثا، سواء في العقد الأخير من القرن العشرين أو العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وهذا هو كلام الكثير من المترجمين المتخصصين بوصفهم شهودا على هذه المرحلة؛ فقد نشرت ترجمات لا تزال تمثل مفخرة من مفاخر الترجمة بوجه عام، وللمركز القومي بوجه خاص، منها ترجمات المرحوم إبراهيم الدسوقي شتا لكتابين مهمين لجلال الدين الرومي؛ وهما: "مثنوي" بأجزائه الستة، و"مختارات من ديوان شمس الدين تبريزي"، وغيرهما الكثير، من إبداع كبار المترجمين في الوطن العربي، صدرت عن المركز القومي للترجمة؛ فضلا عن الندوات والمؤتمرات وتدريب المترجمين بمعاونة رواد الترجمة.
وعن الترجمة وأهميتها ودورها يقول الدكتور جابر عصفور: "والحق أنني لا أزال أؤمن بأن ازدهار حركة الترجمة علامة أساسية من علامات مجتمع المعرفة وحيويته، ولذلك يقاس تقدم الأمم وتخلفها بالمنحنى الصاعد والهابط لعمليات الترجمة وفاعلية مؤسساتها وأجهزتها. ولقد تخلفنا - نحن العرب- كثيرا في هذا المجال، وكانت النتيجة عدم اللحاق بقاطرة التقدم الإنساني التي خلفتنا وراءها ومضت في طريقها الصاعد الذي وصل إلى آفاق غير مسبوقة. ولا أدل على ذلك من أن نصيب كل مليون مواطن عربي، من الكتب المترجمة يصل إلى كتاب واحد تقريبا، بينما يصل إلى مائتين وخمسين كتابا لكل مليون مواطن في إسبانيا. ولا أريد أن أمضي في ذكر إحصاءات سلبية، معروفة، عن واقع الترجمة في عالمنا العربي الذي لا يزال شحيحا في كل ما يتعلق بشؤون الثقافة ومجالاتها، وعلى رأسها أنشطة الترجمة".
ودارت الأيام وتراجعت حركة الترجمة، والإحصاءات دليل على ذلك، بعد أن ترك الدكتور جابر عصفور المركز القومي للترجمة، وظل العمل يسير وفق ما وضعه من سياسات للمركز لبضع سنوات، خاصة أنه عضو في مجلس أمناء المركز، ثم تبدلت الأحوال وتغيرت، بعد مرضه ثم وافته، وفي الوقت نفسه بدأت تظهر دور نشر خاصة تتصدر المشهد الثقافي أو تقترب من الصدارة؛ سواء على مستوى العالم العربي أو المستوى المحلي، والدليل على ذلك الجوائز التي حصدتها دور النشر الخاصة في مجال الترجمة.
ولا يزال الأمل معقودا في أن تعاود حركة الترجمة نشاطها بشكل مؤسسي، في القطاعات الثقافية الحكومية؛ لتواكب متطلبات العصر الرقمي التكنولوجي؛ ولتستكمل مصر دروها الريادي الثقافي، في الارتقاء بأوضاع الترجمة على المستوى القومي، والارتقاء بالوعي العلمي عامة، ودعم الفروع المختلفة للبحث العلمي، ومواكبة الحركة العالمية المستمرة المتصاعدة في التقدم العلمي، وتصبح الترجمة - بحق- هي قاطرة التقدم والنهضة الثقافية في عالمنا العربي، سائرين -في الوقت ذاته- على درب رواد الترجمة في العصر الحديث: رفاعة الطهطاوي، وطه حسين، وجابر عصفور.
0 تعليق