تحدث د.يسري عبدالله عن إبراهيم عبد المجيد وذلك في ندوة منتدى أوراق التي استضافتها “الدستور”، مساء الخميس، وأدارها الناقد الكبير.
يقول يسري عبدالله عن إبراهيم عبد المجيد: "يبدو الروائي إبراهيم عبدالمجيد مسكونًا بالإسكندرية، مشغولًا بها لا بوصفها مكانًا ماديًا متعينًا فحسب، ولا حتى بوصفها مزيجًا بشريًا خلاقًا ومختلفًا، لكن بوصفها شاهدًا على تحولات الحياة المصرية ذاتها، فمن رحابة المدينة الكوزموبوليتانية التي رأيناها في روايته «لا أحد ينام في الإسكندرية» إلى مصريتها الخالصة في «طيور العنبر» وصولًا إلى ضيقها الروحي والنفسي في روايته «الإسكندرية في غيمة»، والتي تكشف سنوات الموات البطيء للمدينة التي تقاوم ولم تزل سموم الرجعية ورياحها التعيسة، فتبدو الإسكندرية حاضرة دومًا بقلقها، وصخبها، وشجوها الذي لا ينتهي، والأهم إنسانيتها التي لا تنفد، والتي تقاوم المد الإخواني المتغلغل في بنية المكان منذ السبعينات وحتى الآن.
يضيف: "يعي عبدالمجيد جيدًا خصوصية المكان السكندري، ويدرك كنهه ويعرف تحولاته ومن ورائه يستجلي تحولات الواقع المصري في سنوات السبعينات
إبراهيم عبد المجيد
يواصل: "كانت جوليا كريستيفا تشير إلى أن النص الأدبى يعد جماعًا لنصوص سابقة أفاد منها الكاتب، وربما يخلق إبراهيم عبدالمجيد التناص على نحو مختلف حين يحيل إلى شخوصه السابقين فى روايات مختلفة تسبق روايته «السايكلوب»، وعبر لعبة من تبادل الأدوار بين المؤلف الضمنى للعمل داخل النص سامح عبدالخالق، وصابر سعيد المروى عنه المركزى والذى يستعيده عبدالمجيد من روايته الشهيرة «هنا القاهرة» ومعه «سعيد صابر» رفيقه فى الارتحال القلق داخل أجواء المدينة المغوية فى السبعينيات من القرن الماضى حيث السياقات المتشابكة والتحولات العاصفة التى يجيد الروائى التعبير عنها جماليا فى معظم نصوصه السردية، وتعد روايتا «الإسكندرية فى غيمة» و»هنا القاهرة» نموذجين دالين فى هذا السياق ومن ثم يستدعى عبدالمجيد شخصيته الأثيرة «يارا» فى «الإسكندرية فى غيمة» والتى تشير إلى الحلم المقموع الذى يتم حصاره بل ووأده فى نهاية الرواية.
يسري عبدالله
ويستطرد:"ستمضى الدلالة السردية طويلا فى رواية السايكلوب نحو عشرات الدلالات البارزة التى تحيل على عالم على شفا العبث والجنون عالم يتداعى يطبق عليه «السايكلوب» الوحش الخرافى صاحب العين الواحدة والمتربص بكل ما هو حر وإنسانى وجميل.
يكمل "يكتب عبدالمجيد روايته مشغولا بشخوصه وتقنياته فلا يكتفى برسم الملامح المعتادة للشخوص سواء الجسدية أو النفسية أو الاجتماعية، لكنه يغوص فيما هو أبعد، حيث الداخل الثرى والمعقد للإنسان الذى صار نهبا للقمع، والاستبداد المجتمعى الذى تخلقه سطوة الممارسة اليومية والعرف الاجتماعى والاستبداد باسم المقدس الذى كرست له الجماعات المتشددة طويلًا.
ويواصل: “تتعدد مداخل القراءة لرواية السايكلوب ويقدم من خلالها عبدالمجيد إمكانية ضافية للمدلول السردى متعدد الوجوه. فمن زاوية التناص مع الأعمال السابقة للكاتب واستحضار شخوص من عالمه الثرى المترع بالحكاية فى «أداجيو» و»هنا القاهرة» و”لا أحد ينام فى الإسكندرية» و»الإسكندرية فى غيمة» إلى رواية التحولات الاجتماعية التى تساءل الراهن عبر تفكيك بنياته وتأمله وليس عبر مقارنته بما كان، ويتم ذلك عبر منحى التفاصيل الصغيرة الذى تزخر به الرواية المكتنزة بالأحداث والمرويات.
ويتابع "تتكئ الرواية فى بنيتها الكلية على ما أسميته ببنية المساءلة حيث وضع الأشياء جميعها موضع المراجعة المستمرة من زاوية عين الكاميرا التى يتبادل موقعها والإمساك بها سامح عبدالخالق المؤلف الضمنى داخل الرواية، وسعيد صابر الخارج من رحم الموت إلى جحيم الحياة وعنفها اللانهائي، إلى تعليقات السارد الرئيسى ذاته الذى ينظم الحدث الروائى ويتوسط بين السرد والشخوص والمتلقين.
منتدى أوراق
يقول يسري عبدالله:"ثمة جدل بين السياسى والجمالى فى رواية «السايكلوب» ليس من منظور أيديولوجى زاعق ولكن من منظور اللعب الفنى مع التحولات ومآلاتها المتعددة.
ويتابع "تبدو لعبة الموتى والأحياء، والأشباح والحقيقيين، والوجود والعدم إحالة على سياق مستقر من أدبيات الكتابة فى العالم، يمكنك أن تستدعى أشباح شكسبير وشخصيات برانديللو التى تبحث عن مؤلف لكن ثمة خصوصية جمالية هنا فى الكتابة لدى إبراهيم عبدالمجيد فى الاتكاء على تراث الكتابة المشرقية فيما يتصل بعوالم الأشباح والعفاريت وفكرة الخلق الكتابى المستمدة من تصورات العرب حول فكرتى الوحى والإلهام الشعرى وبما يحيلك إلى وادى عبقر الذى تعاطت معه المخيلة العربية القديمة بوصفه معينا لا ينضب للشعر والإلهام به.
وتتردد صدى هذه المقولات بأكثر من صيغة داخل الرواية وفى مفتتحها تحديدا حيث استنهاض تلك القدرة الفريدة على الحلم والمعنى والتخييل لدى الكاتب وبما يتسق مع جملة التصورات الفكرية والجمالية الحاكمة لنظرة عبدالمجيد نفسه للكتابة.
ويكمل: "يجدل النص بين الأسطورى والواقعى فى مقاطع عديدة داخله، ويحاول ردم الهوة بين الخيال والواقع، الفنتازيا والحقيقة، عبر لعبة التخييل الروائى التى يعتمد عليها منذ الإهداء والتصدير والاستهلال، وحتى المختتم الروائى الذى يأتى واضعا قدما فى الفنتازيا وأخرى فى الواقع أيضا. فالسايكلوب هنا وحش خرافى مشوه، ممثل الأسطورة وسليل تفاعلاتها فى الميثولوجيا اليونانية التى انفتح النص عليها كثيرا كجزء أصيل من تراث الحكاية التخييلية فى العالم يهاجم مجموعة من المهاجرين إلى إيطاليا محاصرين بضغط الواقع الاجتماعي.
وسيكون التخييل بطاقاته الإيحائية والبصرية واللغوية والنفسية واللاشعورية مركزا فى النص والكتابة. خيال نزق يرمى إلى جعل المتلقى يقظا داخل الحكاية الموزعة على عشرات الحكايات والتى تتبنى آلية التوالد الحكائي، فمن رحم كل حكاية تتناسل حكاية أخرى عن البهى والمهدى والنسوة الأربع، عن سعيد صابر وصابر سعيد، عن يارا وسامح عبدالخالق وصفاء الأولى والثانية.
ويواصل: "يستخدم عبدالمجيد ما يسمى بالعقد السردى بينه وبين متلقيه حيث يحيل إلى نصوص سابقة له كما أشرت، وفى نفس الوقت يكمل ما بدأه، وقد يتمم الحكاية الروائية عبر منطق آخر لذلك الذى اختاره من قبيل التورط العاطفى لسامح عبدالخالق مع صفاء الثانية التى أهملها من قبل.
يشير يسري عبدالله إلى أن هناك تتعدد منظورات السرد فى الرواية من الحكى بضمير الغائب كما فى المفتتح ثم الحكى بضمير المتكلم فى المقطع الأول، ويبنى الكاتب مقاطعه على تقنية الجملة المدهشة ولا يكتفى باستخدامها فى نهايات الفصول السردية، ويوظف اللغة بمستوياتها المختلفة، محتفيا برشاقة الجملة السردية، ومداعبتها الوجدان الشعبى « شعرت بالضيق لأنه نقلنى معه إلى هنا فى لحظة، فلم تتح لى رؤية الشوارع والناس. تذكرت أن من يأتى هنا مشيا ملزم بأن يعبر جسر قصر النيل ويرى الأحبة اثنين اثنين يقفون ووجوههم إلى المياه».
وأكد: "ترتبط العناصر البنائية فى النص بالتخييل. فالمكان يتوزع بين المقابر والشوارع والمدن والبحر وسفينة علاء الدين والزمن يتقدم بالبشر صعودا وهبوطا وفقا لمنطق الحكاية الفنية فسامح يعود شابا مع يارا ثم يرتد شيخا كبيرا بعدها وهكذا. ثمة كتابة مختلفة هنا، وثمة مشروع يتجدد باستمرار عركته التجربة الحياتية والخبرة الجمالية والتماهى مع الشخوص، والأهم مطاردة الخيال فى كل شيء، وهذا ما يبقى كتابة إبراهيم عبدالمجيد شابة فتية، نابضة بالحيوية والمتعة والجمال.
وأضاف: "ثمة مغامرة جمالية ودلالية جديدة يرتادها الكاتب الروائي المصري إبراهيم عبد المجيد في روايته "العابرة" يتخذ عبد المجيد من تيمة "التحوّل" تكئة لنصّه، عابرًا به من حيّز الواقع إلى حيز التخييل، حيث تصبح مهمة الأدب على حد تعبير أرنست فيشر في أن يفتح الأبواب المغلقة لا أن يدخل الأبواب المفتوحة، فتغدو الرواية نفسها نوعا مفتوحا على كافة الاحتمالات والطرائق التي تجعل منها إمكانية فنية قابلة للتجدد
حيث توجد الكتابة يوجد التجريب، وهنا تكمن المنطقة التي يحفر فيها الروائي المصري بدءا من روايته "في الصيف السابع والستين" ووصولا إلى "العابرة".
وتابع "لكن كيف بنى عبد المجيد روايته؟ يجعل الكاتب من حكاية التحوّل الجندري لبطلته (لمياء) إلى بطله (حمزة) إطارًا للسرد، لتصير لمياءُ حمزة عقب رحلة من المعاناة التي لم توقفها النهاية المنفتحة على أفق وسيع، يتجاوز أزمة النوع إلى أزمة الهوية والمصير في واقع مكبل بالغيوم.
وواصل: "هكذا يصبح المستوى الحكائي الأول خاصا بالشخوص في وجودهم الواقعي، متجاوزين في البنية العميقة للحكي دلالات الوجود الفردي المأزوم إلى وجود جماعي ممزق بين ثقافة الصحراء بقمعها الديني وثقافة الخوف بتقييدها السياسي، وما بين المنحيين تتشكل بنى الرواية في مستواها الأكثر نفاذا لواقع معتم وشائه.
يلجأ الكاتب إلى رفد حكايته المركزية بجملة من الحكايات الفرعية التي تمثل حالا من الترصيع السردي، حيث يحضر الكلّ عبر الجزء، وتكتمل غواية الحكي عبر التفاصيل، ولذا كان لا بد من استحضار فضاءات مكانية مختلفة يتحرك فيها الشخوص وتصنع فيها الأحداث. فكان الحضور النصي للجامعة، ولوسط البلد، وللسجن، حيث ثمة فضاءات تقيّد حركة الشخوص، وترتبط بمكابداتهم الحياتية في حال من المأساة، وتداعي المعنى.
ويصل عبدالمجيد لغايته في تقديم لوحة شاملة لعصره وفي تماس مع مسارات الكتابة الواقعية الخارجة من رحم البشر، والمعيش.
ويختتم يسري عبدالله: "لكنّ عبد المجيد الذي أوكل لنصه مهمة التجريب المستمرّ يجد في الحلم توسعة للمدى الواقعي، فالتخييل في النص لا ينهض على التأثير النفسي في متلقيه فحسب، ولكنه ينهض هنا أيضا على صناعة الخيال حين يحول الواقع الحيّ إلى فن.
يبحث إبراهيم عبد المجيد عن مظلة للحكاية، ويحفر في الواقع، لا ليخلق مساراته المعدة سلفا، لكن ليحيله إلى فن يجاوز لحظته رغم احتفائه بها، فيضرب في فضاء يخصه، وتصير كل رواية رحلة في الزمان والمكان، وملامسة لذلك العصب العاري للجوهر الثري للإنسان.
0 تعليق