عزيزي الزائر أهلا وسهلا بك في موقع في المدرج نقدم لكم اليوم طفرة الروايات الصوفية وانشغال الكتّاب الجدد بالتاريخ - في المدرج
في نصوص نجيب محفوظ، نعثر على أنشودة أو شخصية أو معنى صوفي، لكن ليس لديه ما يُطلق عليه "رواية صوفية"، هذا المصطلح المثير للجدل والرائج الآن.
لكن لماذا انهمر سيل الروايات الصوفية خلال السنوات العشر الماضية، على الرغم من تحفظ البعض على المصطلح؟
مراراً وتكراراً عاد مبدعون عرب ومسلمون إلى جلال الدين الرومي والغزالي وابن عربي. وقبل أيام، ناقش الباحث المصري د.أشرف عبد الكريم، رسالة دكتوراه بعنوان "الرواية الصوفية العربية: الأسس والبُنى"، بإشراف الراحل جابر عصفور، ثم الدكتور خيري دومة. وربما تصلح تلك الرسالة مدخلاً لفهم الظاهرة.
تجديد وتجريب
عن تلك الظاهرة يرى عبد الكريم، "أنه في سعي المبدعين الروائيين نحو التجديد والتجريب، توجّه بعضهم إلى التاريخ، وتوجّه غيرهم نحو التراث الديني، في محاولة لتحقيق التفرّد وتأكيد الأصالة، وهناك من اتخذ التراث الصوفي العربي ركيزة رئيسة يحاول من خلالها بث رؤيته للعالم، وموقفه من الوجود ومفرداته".
وقال: "أصبح لدينا كثرة من عناوين روائية تعلن عن توجه مؤلفيها نحو التوسّل بهذا التراث المميّز لثقافتنا العربية، وأصبح بالتالي لدينا تداخل بين ما يمكن تسميته بالرواية الصوفية، وبين ما يتوقف عند الاستعانة بالتصوّف أو توظيفه، ما يبرز الحاجة نحو دراسة تضع قرائن وأسس تميّز السرد الروائي الصوفي عن غيره من الروايات".
إذن ما الذي يميّز الرواية الصوفية عن غيرها؟ يقول عبد الكريم: "غالباً لا يخلو النص الروائي من تساؤلات وجودية وروحانيات، لكن أهم ملامح الرواية الصوفية تكمن في تبني موقف يتّصف بالتسامح، وتقبّل الآخر، فلا يراه ضداً له".
ويعتبر أن هذا الموقف "ينسحب على الآخر الديني، ويمتدّ لموقفه من الكائنات الأخرى التي يحادثها ويتعلم منها، في رحلة ينجم عنها تحوّل بالضرورة، لكن هذه الرحلة لا يشترط أن تكون عبر المكان".
يضيف: "قد تكون رحلة داخل الذات، ولو كانت رحلة في المكان فلها طبيعتها الخاصة وأماكنها التي ترد باضطراد، في سعي من هذا الولي/ البطل، للتغلب على ما يعتري البشر من نقص، فلا يحدّه المكان؛ إذ هو من أهل الخطوة أحياناً، ويوظّف خياله في التعامل مع الفضاء المحيط به، وقد يمتدّ تسامحه إلى تكاليف الدين، وتفاصيل هذه المواقف كلها تقدّم في لغة متمايزة بغموضها ورمزيتها التي تناسب التجربة الباطنية والمعرفة".
إنكار التخصص
مثلما تخصّصت أغاثا كريستي في الرواية البوليسية وعالم الجريمة القاتم، هل يمكن أن يتخصّص الكاتب في ما يسمى "الرواية الصوفية"؟
الروائية رشا زيدان، التي صدر لها ثلاثية ترتكز على التصوّف تشمل: "روح" ، "لك وحدك"، و"هو أنت"، تقول: "لا أعتبر نفسي مختصّة في الرواية الصوفية، لكني قدّمت شكلاً مختلفاً لها نتاج تجربة ذاتية، وانخراط في الاجواء الصوفية في مصر والخارج. وهذا الشكل المعاصر للصوفية جعل القارئ يربط تحديات حياته بالروحانيات، ويرى علاقته بالله بمنظور روحي".
بدوره يبدو الإعلامي والروائي محمد موافي متحفظاً، ويرى أنه "حتى لو رأى النقّاد أن روايتين من رواياتي الأربع، يُصنّفان تحت هذا المصطلح، فأنا أرى أنني لم أكتب رواية صوفية، ولا تاريخية، بل أكتب خيالاً يعتمد على تجارب مختلفة، فإن جنح الخيال إلى روح التصوّف، أو قدّمت التجارب حياةً لمتصوفٍ ما، فهذا لا يعني أني أكتب عملاً صوفياً".
واعتبر أن المشكلة في التصنيف الجامد الذي يريح ناقداً كسولاً. لكني لم أكتب مطلقاً ترجمة لشخصية متصوّفة ما، بل أرى أن اختيار شخصية معروفة والكتابة عنها، يصبح نوعاً من التقرير الإنشائي الإخباري. ونحن في غنى عن ذكر أمثلة كثيرة".
وقال: "في روايتي الأحدث "آيات عاشق"، كان الراوي صريحاً من الصفحة الأولى، وأعلن أن ما لا يمكن الحديث عنه بالكلية، لا يمكن السكوت عنه بالكلية، فلجأ إلى حوادث التاريخ ومشى مع الجغرافيا، ليقول ما يحاول روائي أن يكتمه في صدره".
موضة رائجة
هل يمكننا القول إن الكاتبة التركية أليف شافاق أسست موضة روائية رائجة، أثمرت عشرات الروايات العربية التي تستلهم عوالم وشخصيات صوفية؟
يقرّ الروائي ماجد طه شيحة، أنها "موضة وانتهت" أو انحسرت بتعبير أدق، وبالفعل بدأتها "قواعد العشق الأربعون" لشافاق. ولا ينكر أنه تأثر بها في روايته "درب الأربعين" التي دارت في أجواء صوفية.
بدورها تتحدث رشا زيدان عن تأثير شافاق، وترى "أن سبب إقبال بعض الكُتاب على الرواية الصوفية يعود ربما إلى نجاح "قواعد العشق الأربعين"، لكن هناك كثيرون قدّموا تجارب مميّزة سابقة عليها، وإن لم تلق نفس النجاح".
وترى أن كل كاتب لديه حس روحاني، ويمتلك أدوات التعبير والحكمة، يحلم أن يكون في تاريخه رواية بخلفية روحانية في عصر غلبت عليه المادة.
هروب إلى الماضي
في رسالته للدكتوراه، اختار أشرف عبد الكريم 11 رواية من بلدان عربية كنماذج مختارة، من مصر اختار روايتي "ترنيمة سلام" و"عشق" لأحمد عبد المجيد، و"جبل الطير" و"شجرة العابد" لعمار علي حسن، و"حارس العشق الإلهي"، و"التاريخ السري لمولانا جلال الدين الرومي" لأدهم العبودي، ورواية "كيميا" لوليد علاء الدين.
ومن المغرب اختار روايتي "جبل قاف" و"طواسين الغزالي" لعبد الإله بن عرفة، و"هذا الأندلسي" لبنسالم حميش، ومن السودان "شوق الدرويش" لحمّور زيادة، ومن السعودية "موت صغير" لمحمد حسن علوان، إضافة إلى روايات أخرى.
وعلى الرغم من تنوّع موضوعات وبيئات هذه النماذج، لكن جميعها تشترك في الانتماء إلى الألفية الثالثة. فلماذا ينشغل كُتّاب يعيشون في القرن الحادي عشر بالغزالي وابن عربي والرومي والحلاج؟
أليس من باب أولى أن يكتبوا عن جائجة كورونا؟ لماذا لا يفكرون مثل سامنثا هارفي الحائزة على جائزة "بوكر" الدولية عن روايتها "مداري"، التي تقدم رواية فلسفية من وحي روّاد فضاء خياليين؟
هل يخاف الكاتب العربي من سلطة الواقع ويفضّل الهروب إلى ماضٍ سحيق بدلاً من طرح أسئلة المستقبل؟
تقول زيدان: "الصوفية ليست ماضياً بل فلسفة روحانية قدّمت قديماً، وهي تقدّم اليوم بما يتناسب والعصر الحالي. وإذا استطاع الكاتب أن يربط فلسفة قديمة بحاضر معاصر فهذا إبداع وإضافة".
بينما يرى محمد موافي، أن المسألة ليست قراراً واعياً يتعلق بالماضي والمستقبل، فالروائي هو مجموع تجاربه الشخصية وخياله الجامح ولغته الخاصة، والأبطال هم من يختارون الزمان والمكان والقالب، يؤسسون عمران النص ويفرضون لغتهم الخاصة. فإن حدث واختار البطل زمناً مضى، فهذا يعني أنه الزمن المناسب من وجهة نظر الخيال. وهذا لا يمنع أن يهرب الروائي من واقع أو من خطر".
أسباب الرواج
سواء اعترف النقّاد بمصطلح "الرواية الصوفية" أم لا، وسواء اعتبرناها موضة أو هروباً من الواقع أو استجابة روحانية ضد قسوة الواقع المادي، فما سرّ رواجها؟
يجيب ماجد شيحة: "ميزة الصوفية عموماً أنها تقدّم حلولاً للنفس وتصوّراً أفضل للواقع الصعب الذي يعيشه الناس".
وتؤكد رشا زيدان على فكرة الرواج قائلة: "الكتابة في الصوفية جاذبة لكُتّاب كثيرين نظراً لجمهورها الكبير، لكنها بمثابة رمال متحركة، الغوص فيها يجب أن يكون بحذر، لأنها تتطلب الكثير من التفكّر والتأمل والتجربة الذاتية، ليكون الكاتب صادقاً فيما يكتب ويلمس قلب القارئ، عبر تجربته الذاتية وحكمته المستخلصة، وليس مجرد ناقل لحِكم مكررة من تجارب آخرين دون الإحساس الحقيقي بها".
0 تعليق