فيلم "أرزة".. رائحة الخبز بطعم المرارة والضحك - في المدرج

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

عزيزي الزائر أهلا وسهلا بك في موقع في المدرج نقدم لكم اليوم فيلم "أرزة".. رائحة الخبز بطعم المرارة والضحك - في المدرج

في فيلمها الروائي الطويل الأول "أرزة"، والذي عُرض ضمن مسابقة آفاق السينما العربية، في مهرجان القاهرة السينمائي بدورته الـ45، تُقدم المخرجة اللبنانية ميرا شعيب عملاً مميزاً يجمع بين السخرية الحادة والواقع المأساوي، مسلطة الضوء على تعقيدات الحياة اليومية في لبنان، حيث تتداخل الأحلام البسيطة مع العقبات الكبرى، وتتحول القضايا السياسية والطائفية إلى عوامل مؤثرة في تفاصيل الحياة الشخصية.

الفيلم الذي يعكس عبر عناصره البسيطة صورة مألوفة عن واقع مليء بالمفارقات، نال جائزتين في ختام المهرجان، الأولى جائزة شريف رزق الله لأفضل سيناريو للكاتبين لؤي خريش وفيصل شعيب، بجانب جائزة أفضل ممثلة لدياموند بو عبود.  

جدران من ورق

"أرزة" أم عزباء تكافح لتأمين حياة كريمة لها ولابنها المراهق "كنان" (يقوم بالدور الممثل السوري بلال الحموي). كنان الضال العنيد، دوماً ما يحقر من نفسه و يرثي لنفسه من نفسه، يزداد تذمره من الظروف المحيطة به، في أعماقه تدفق للحياة في الخارج، ونهم لحب ابنة الجيران، هذا الحب  العذري، الشيء الوحيد الذي ينفث الظلم والتعاسة من عينيه، أمام تفكيره المستمر في الهجرة.

بينما تعمل "أرزة" في إعداد وعجن الفطائر داخل منزلها المتواضع، وبيعها للزبائن، فهي لا تملك رفاهية المغامرة، كما لا تملك رفاهية اللامبالاة، إنها تفكر فقط في اليوم، في اللحظة، في الساعة الآنية، ولا تستطيع ترك الفطائر الساخنة حتى تبرد ويتذوقها أفراداً محدودين من سكان الحي بعد تلقي طلباتهم عبر الهاتف المنزلي.

ومهما حصرت "أرزة" تركيزها في الحاضر، وأسندت رأسها على جدار منزلها المتهالك، توقن ألا مفر من التحديات القاسية التي يفرضها ضيق العيش، فلا عجانة كهربائية تسهل عملها في عجن الفطائر، ولا وسيلة نقل مريحة لتوصيل الطلبات مع المحافظة على طزاجتها، خاصة بعد ملل ابنها من تنفيذ المهمة سيراً على الأقدام، بالإضافة إلى عدم امتلاك وسيلة تسويقية لتوسع مصدر رزقها.

وتقرر "أرزة" اللجوء إلى وسيلة ما لشراء دراجة بخارية بالتقسيط من تاجر جشع، تقتني الدراجة وتضع ابنها أمام الأمر الواقع في مهمته الجديدة كمندوب توصيل، يقبل الأمر رغماً عنه، لكن سرعان ما تُسرق منه الدراجة في لحظة غفلة، لتبدأ رحلة البحث عنها، ومن هنا يبدأ سرد المأساة الساخرة.

مفارقات الرموز والطوائف

يمزج الفيلم بين الحزن والضحك في معالجة أزمة الطوائف اللبنانية وعدم استقرار الأمن، في أثناء رحلة البحث عن الدراجة، ينفجر اللوم بين الأم والابن، لكنه لا يستمر على نفس الإيقاع، بل يعلو ويهبط وفقاً لسياق صُنّاع العمل في الخروج من الحيز الخاص إلى الحيز العام، ثم العودة لأزمتهما الداخلية عند الضرورة، مروراً بتزايد التعقيد نحو تسليط الضوء على الانقسامات الطائفية، ومخلفات الحروب خاصة عند التطرق إلى ذكر شخصيات ذكورية غائبة عن المشهد العائلي، بسبب القتل أو الاختفاء أو الخطف.

في هذه الأثناء، تضيق سبل البحث عن الدراجة المفقودة، وتضطر "أرزة" لتبني رموز دينية ولهجات متنوعة وتقمص شخصيات تتناسب مع المناطق  الطائفية التي تتوجه إليها قاصدة الرجال المعنيين، ذوي الخبرة في تجارة وبيع الدراجات المستعملة، مغلفة ذلك كله بعبارات شبه موحدة   "دلوني عليك".

كان طوق النجاة بالنسبة إلى "أرزة" هو متجر الهدايا الصغير، إذ تنشأ لحظات ساخرة بينها وصاحبة المتجر (تقوم بالدور شادن فقيه) التي تعبر بخفة ظلها عن دهشتها من الطلبات المتكررة والمتناقضة: حجاب، وقميص ساتر، ثم صليب، ثم سلسال ذو الفقار الذي يرمز للطائفه الشيعية، وفي كل مرة تعاود "أرزة" للمتجر فهي تطلب الشيء على أنه استحقاق بعد أن كان في البدء ترجي وتلطف. 

هذه المشاهد تتجاوز الظرافة إلى كشف الستار عن هوية لبنان المتشابكة وفائقة التعقيد، حيث يصبح التنقل بين الطوائف طريقاً وعراً، كما يتبين أن دخول مناطق معينة من أجل مصلحة ما، يتطلب استراتيجيات ذكية وحذرة، مثل استراتيجة "أرزة" مع صاحبة متجر الهدايا التي وصلت حواراتهما المقتضبة إلى مراحل تصاعدية، في التفاوض بعد أن نفذ المال لديها، لكن لم ينفذ أملها قط.

فقد وصلت شخصية "أرزة" إلى بطولة المتشكك الذي يشق الطريق، دون أن يتحقق من شيء، ودون أن يبالي أيضاً أنه لا يوقن الوصول إلى شيء.

الأمومة المبكية بصمت

ذهبت دياموند بو عبود في دور "أرزة" بانسياب، في انسيابيتها صنعت من الفرح والشجن انصهارات من الصعب تفكيكها في الأداء، وهذا ما يجعل التساؤل إذا ما كانت هذه التقنية السلسة مدروسة لشخصية ثلاثينية مرهقة من الصدمات، ومسؤولة عن ابن وحيد، وشقيقة كبرى منطوية تدعى "ليلى"، تعيش على أطلال الماضي "تقوم بالدور بيتي توتل" لا تعمل وتعاني من فوبيا الخروج من المنزل.

كل هذه التراكمات التي تحاصر البطلة الرئيسية بالقلق والخوف وانعدام الأمان، نسجتها دياموند بين الأداء العاطفي المفعم بالإصرار والصبر والهدوء والحس الساخر، وهي خلطة سحرية لجعل الشخصية قريبة من المشاهدين. 

على النقيض، تضيف شخصية "كنان" بُعداً آخر للعمل، حيث يعكس خطه الدرامي وطموحه بالهجرة باليأس الذي يعيشه الجيل اللبناني الشاب، ليواجه واقع والدته بحدية مناقضة لهدوئها. أما صاحبة متجر الهدايا، فتبرز كنقطة توازن في الفيلم، تخفف من وطأة الأزمات بروح فكاهية عفوية مرحة.

ماذا تصنع بنا الفطائر؟

على نسق فيلم "وهلق لوين" للمخرجة نادين لبكي، وفي المشهد الشهير حين تكاتفت سيدات وفتيات القرية لتهدئة الاحتقان الطائفي لدى شبان القرية ورجالها، فقررن حينها صنع كمية وافرة من الحلوى والمعجنات بخلطة من الحشيش والسكريات.

كذلك تأتي هنا رمزية الفطيرة الطرية والمحشية بالسبانخ في "أرزة" أداة فعالة في الإيقاع، رمزية الدفء والحميمية والحنان لرائحة المسكن والمطبخ المنزلي، مقادير مفقودة في يوميات عالم خارجي متوحش، وواقع مشحون يلتهم ذاته، ذكاء المخرجة "ميرا" في تقديم الفطيرة الشهية إلى الشخصيات الصلبة، لتليين العدائية والرفض الاستباقي، بدلاً من مغريات مادية أخرى، وهي دلالة على أن الجميع يحمل نفس الألم ويصدره حسب معيار القوة لديه، والجميع كذلك يتشافى بالطبطة أمام هذه الهشاشة العنيفة، وإن تمثلت هذه الطبطبة في فطائر منزلية.  

النص وجائزة الاستحقاق

مهما شاهدنا من تكرار الفكرة، لا يمكننا تجاهل أن النص كان يسير على حبل مشدود، أدرك الكاتبان أن السيناريو يتجنب النبرة الخطابية، وإن كان الحوار مألوفاً، إلا أنه نفض ما تحت السجاد الانشقاق السياسي والاجتماعي في لبنان، من خلال قصة تبدو بسيطة، لكنها متعددة الطبقات برؤية نقدية تتجاوز السطح، حيث طرحت الرموز العقائدية في هذا الإطار بخلفياتها الثقافية بمساواة ودون  تمييز، كما تم وضعها كعنصر مركزي في الحبكة بمسمياتها الواضحة والمحددة، وتوجهاتها الإيديولوجية والعصبية أحياناً، مثل اللهجة الزاعقة على لسان إحدى شخصيات المنطقة المسيحية "شو هالاسم؟ بلال؟ أنت مو من عنا!!"، البناء هنا ليس من موقف شخصي متأجج، بل من مجرد "اسم" باعتباره غريباً عن المنطقة، اسم يعكس قدرة السيناريو على التوظيف من خلاله تفاصيل الحياة اليومية لتقديم إسقاطات أعمق على واقع البلد المنقسم داخلياً.

"أرزة" ليس مجرد فيلم عن أم تحاول تحسين حياتها وابنها، ولا عن أزمة دراجة مفقودة، بل عن بلد مفقودة، وعدل مفقود، وأمل ينسل من المواطنين كالزئبق، هو صورة مصغرة للبنان بكل تناقضاته، ومعاناته، وجراحه وحبه العميق للحياة.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق