عزيزي الزائر أهلا وسهلا بك في موقع في المدرج نقدم لكم اليوم حازم ويفي يكتب: من سرق الأرزة؟! - في المدرج
سيدة تحمل صناديقًا كرتونية لا نعلم ما بداخلها، تسير على قدميها وسط شوارع بيروت، زحام الشوارع يبتلع ضعف جسدها النحيف، ونفهم من شرودها أنه يبتلع أفكارها أيضًا. يمكنك بسهولة أن تتبين أنه شارع عربي في بلد عربية.
تصل السيدة ذات الرداء الأصفر الصيفي المشرق لهدفها، وتسلم الطرد في مقابل حفنة قليلة من النقود الورقية، ثم تعود من نفس الشوارع التي ذهبت منها، في رحلة دائرية تتابعها الكاميرا من بعيد في سرد تسجيلي لشوارع المدينة المزدحمة، وتمر على متظاهرين يحملون علمًا تتوسطه شجرة الأرز وهنا تعبر لنا البلد عن هويتها بوضوح، إنها لبنان ونحن في بيروت. تصل إلى بيتها وهناك نفهم أنها تقوم بعمل فطائر السبانخ وتبيعها من المنزل، وأنها تقوم بالتوصيل بنفسها…وأن اسمها هو اسم الشجرة الخضراء المورقة التي تتوسط العلم- أرزة!
هذه هي الافتتاحية المبهرة التي بدأ بها فيلم أزرة، والذي عُرض في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته الخامسة والأربعين، وهو من إخراج ميرا شعيب، وسيناريو لؤي خريش وفيصل سام شعيب، وهو إنتاج عربي مشترك بين لبنان ومصر وبدعم من مهرجان البحر الأحمر السينمائي.
يتتبع الفيلم معاناة أرزة للعيش بشرف، وطموحها لتطوير مشروعها لكي يصبح أكبر، ولا يبدو أنها تحصل على المساعدة المطلوبة من ابنها المراهق الذي يريد الهجرة، وأختها الي تعيش معهم في نفس المنزل، والتي تحيا على أنقاض الماضي في انتظار زوج لا يأتي أبدًا.
من أجل أن تزيد من سرعة وفاعلية خدمة التوصيل وبالتالي تزيد قاعدة الزبائن، تضطر لسرقة مصاغ الأخت لكي تدفع مقدم شراء دراجة نارية صغيرة، على أن يقوده الابن لتوصيل الطلبات، وبالتالي تشركه في العمل، وفي نفس الوقت تحصل على زبائن أكثر.
نرشح لك: في عيد ميلادها.. قصة تعارف بوسي على نور الشريف
توقع على إيصالات أمانة بباقي المبلغ، وفي نفس الوقت تُسرق الدراجة نارية من الابن، وأمام تخاذل السلطات وقلة حيلتها،يصبح الفيلم هو رحلة الأم والابن للبحث عن الدراجة النارية المسروق في بيروت وضواحيها. في أثناء هذه الرحلة نتعرف على لبنان - الوطن الممزق بين عدة فصائل لا تثق في بعضها البعض، ولا تأمن إلا لنفس طائفتها، ولأن أزرة مصرة على استرداد حقها الشرعي في الدراجة نارية، وبرغم سرقة عقد الشراء، فإنها تنتمي ”مؤقتًا“ لكل فصيلة مصطحبة الولد معها، لكي يصبح عمر بالنسبة للسُنة، وعليّ بالنسبة للشيعة، وجان بول للمسيحين، أما هي فإنها ”أزرة“ طوال الوقت، في إِشارة إلى الشجرة الأم التي أنجبت كل هؤلاء، والتي لا تزال تبحث عن هويتها الضائعة وسطهم بينما يتلاعبون بها كالكرة، فهي تارة ترتدي سيف الإمام علي، وتارة الصليب، وتارة ترتدي الحجاب- في إشارة مباشرة أخرى إلى ضياع هوية الوطن المسروق! هل تبحث عن دراجة نارية أحمر أم تبحث عن لبنان؟
وكما يتعامل السيناريو مع هذا التنوع الطائفي/ الجغرافي، فإنه يعرض أيضًا التنوع العُمري بتقديم ثلاثة أجيال من اللبنانين. الأخت الكبرى ليلى وتمثل الجيل الذي شهد الحرب الطائفية، وهُجر وشُرد بسببها، ونراها في مشهد مؤثر للغاية - بعد أن هربت من المنزل - تقف على أطلال منزلها القديم تبكي على ذكرياتها فيه مع زوجها الغائب الذي سنعرف فيما بعد أنه قُتل في إحد سجون سوريا!
ثم جيل الوسط الذي تمثله أرزة نفسها، التي عاشت بدايات الحرب الأهلية كما حضرت تبعياتها بنفسها، وتمثل ذلك الجيل الذي ورث الموت والفشل وخيبة الأمل وسرقة الوطن والذي أصبح مقدرًا له أن يحاول تغيير أوضاع تسير من السيء إلى الاسوا حتى وصلنا إنهيار كامل للاقتصاد يجبرها لأن تسرق من الجيل الأقدم - متمثلًا في الأخت الكبرى- لكي تحاول تغيير الحاضر!
ووصولا لجيل الابن كينان أو علي أو عمر أو جان بول حسبما تكون طائفته التي تتبدل أثناء الرحلة والذي تم الثامنة عشر مع بداية أحداث الفيلم، ويدخر لكي يصدر جواز سفر ويهاجر بشكل غير شرعي لأوروبا عبر تركيا، لكي يلحق بحبيبته التي سوف تهاجر بعد أيام مع أسرتها! أجيال تدفع ثمن أجيال أذنبت في حق أجيال. أليس كينان هو رمز للشباب العربي ككل؟
ثم يبرع السيناريو مرة أخرى في تقديم صورة حقيقية وواقعية للمرأة اللبنانية بعيدًا عن الصورة النمطية السائدة في الوطن العربي. سيدة في نهاية العِقد الثالث من العمر، جميلة بدون تكلف، وإن كان الهم والشقاء ترك على وجهها وروحها أثرًا جعلها تبدو أكبر مما هي عليه! تزوجت في سن الثامنة عشر، وأنجبت طفلًا وهي لا تزال طفلة! يهجرها زوجها ويهرب إلى مكان مجهول، وتربي الولد - بمساعدة الأخت الأكبر- بشرف، دون انحراف أو هروب أو خوف، بل وتحاول أن تحافظ على حب الولد لأبيه، وتقول له أنه في فرنسا، وتشتري له الهدايا وتعطيها له على أنها من أبيه، تظل تفعل ذلك طوال ثماني عشر عامًا، تقوم بدور الأم والأب بدون كلل! أليست أزرة هي صورة للمرأة العربية ككل؟
وفي نفس الوقت يضع السيناريو الأخت الكبرى كمعادل نسائي آخر، لا تريد المشاركة في العمل، ولا يزال يعتمد على الصورة الذكورية ممثلة في انتظار زوج لا يأتي أبدًا، وتدليل المراهق والدفاع عن حق ذكوري بائد بأن لا يعمل بل وتساعده لكي يصدر جواز السفر وكأنها تشجع رمز ذكوري ثالث على الهرب بعد الأب الجبان والزوج المقتول، ثم الابن الهارب. شخصية رومانسية حالمة، تحلم خلف باب غرفتها المغلق بعودة الليالي الرومانسية الحميمية مع الزوج الذي أفسد كل شيء! أليست الأخت أيضًا نموذج آخر للمرأة العربية ككل؟
في مشهد صغير عبقري وأنثوي بامتياز، تسترق أرزة النظر من خلف باب غرفة النوم إلى أختها بينما تسترجع لحظة حميمية مع زوجها ويظهر عليها علامات الشبق بينما تستمع لأغنية رومانسية، ثم تبرع ديماند بو عبود في التعبير عن التشابه الوحيد بين الأختين وهو الحاجة للحب واللمس والاحتواء، وبينما تشيح بوجهها وتبتعد بسرعة وتقاوم وتفيق، تستغرق الأخرى في الأحلام. إنه صراع المرأة العربية مع نفسها!
يمثل أداء ديامند بوعبود فارقة كبيرة في هذا العمل، لا تخفي جمالها، وتخفيه. تصمت فتتكلم، وتتكلم فتصمت، عيونها زائغة أحيانًا، وأحيانًا في قمة تركيزها أثناء العمل. تضحك بشجن، وتشجب بضحك، حتى عندما تبكي وتتألم لا تنهار. قبل النهاية بقليل ومع فقدان الأمل النسبي، تُعدل ديماند من طريقة مشي أزرة، وتستخدم خبرتها المسرحية في تطويع ذراعيها للخلف لكي تكشف لنا انكسارًا خفيًا، ولكنها لا تُعدل إيقاع الحركة، وتظل تسير للأمام، بحثًا عن ما سُرق منها، ربما ليس الدراجة نارية فقط ولكن شبابها، وأموالها، وحلمها، ولكن لا يزال معها الابن! بارقة أمل وحيدة تستحق العيش.
تتضحك معه مثل طفلة مراهقة لكي تشعرك أنها حبيبته الأولى، وهو حبيبها الوحيد، ثم تنهره كأم في مشهد تالي، وتسحبه بعنف في مشهد رابع، وتمارس سلطة الأب في خامس، وتعود لكي تحتضنه في سادس، وهكذا تتنقل ديامند على المستوى الأدائي ما بين الذكوري والأنثوي، الطفولي والناضج وتطوع معها طبقات الصوت والنظرات وأحيانًا طريقة المشي!
في مواضع عديدة، تضع ميرا شعيب وجه أزرة تحت الضوء، سواء كان خارجيًا أو داخليًا. أزرة هي نقطة ضوء وسط مأساة على مستوى البيت والأسرة والوطن ولا أقول لبنان- بل أود أن أقول الوطن العربي. وتصل قمة الحميمية في التعامل مع شخصية أرزة في كل المشاهد التي تظهر فيها بداخل المطبخ لكي تخبز الفطائر وتحشوها وعلى وجهها كل علامات الحب والبشاشة، كما تعامل المونتاج بحساسية شديدة مع اللقطات القريبة لمكونات الفطائر، وكيف أن أزرة تلتقط مكونات متفرقة لكي تصنع منتجًا طيبًا لها مذاق الطعام البيتي التقليدي ليس لكي تبيعه فقط، ولكن لكي يكون رفيق رحلتها في البحث عن الدراجة نارية الضائع، حيث يأكل منه كل من يقابلها من الطوائف المتناحرة، وكأن الفيلم يمرر رسالة أخرى وهي أن طالما يمكننا تناول نفس ”اللقمة“ فأنه يمكننا أن نتوحد حول طعام أرزة - حول شجرة الأرز التي تتوسط علم الوطن.
كما جاء أداء الفنان الشاب بلال الحموي بسيطًا وعفويًا، وتألقت الفنانة بيتي توتل في دور ليلى المنكسرة المهزومة، التي تخفي آلامًا وجروحًا تفوق احتمالها حتى تصل لمرحلة الغليان، وقد جاء أداءها متدرجًا حتى وصلت لمرحلة الانفجار ثم التصالح مع الواقع وغمس يدها في العجين حرفيًا!
يقول لؤي خريش إحد كتاب السيناريو أن فيلم سارق الدراجة ١٩٤٨ -رائعة فيتوريو دي سيكا- كان إحد مصادر الإلهام لهم عند كتابة الفيلم الذي يشترك معه في الحبكة الأساسية ويختلف في الطرح. كما يضيف خريش أنهم أثناء التصوير لعبوا نفس اللعبة في الفيلم حيث تقدمه ميرا في كل مرة بإسم مختلف حسب الموقع يتبع لأي فصيل، والعكس صحيح.
في تتابع مشهد النهاية، يظهر إحد أهم عناصر الفيلم وهو الموسيقى التصويرية التي قدمها الفنان المصري هاني عادل، بنكهة عربية لها مذاق لبناني خاص، مزج فيها الآلات الشرقية مع أصوات تعبر عن الأمل الخفي، ويشرح عادل أنها نتاج هضمه لتراث الموسيقى اللبنانية في السبعينات، وسماعه لصوت الشارع اللبناني الحقيقي في أسفاره هناك، ومزج ذلك كله برؤية عصرية تلائم بارقة الأمل التي تشرق في نهاية الطريق.
حصد فيلم ”أرزة“ جائزتي أحسن ممثلة وأحسن سيناريو (جائزة يوسف شريف رزق الله) في قسم ”آفاق عربية“ بمهرجان القاهرة السينمائي في دورته الخامسة والأربعين، كما فازت ديامند بجائزة أحسن ممثلة في المهرجان العاشر للفيلم الأسيوي، كما تم اختياره للمشاركة في جائزة الأوسكار فئة أفضل فيلم أجنبي.
عبر فيلم أرزة ببساطة وحب وسلاسة عن الواقع اللبناني في دولة مزقتها الحروب والمؤامرات وتضارب الأهداف والمصالح، ورصد شتات الشعب في غياب السُلطة وانهيار الاقتصاد وطمع الأعداء.
0 تعليق