عزيزي الزائر أهلا وسهلا بك في موقع في المدرج نقدم لكم اليوم تنفيسة| «التثقيف زمن التأفيف».. دعوة للتأمل في الموروث الثقافي - في المدرج
جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
"إن الشيء الأساس في قراءة كل عمل أدبي هو التفاعل بين بنيته ومتلقيه، ومن هنا يمكن أن نستخلص أن للعمل الأدبي قطبين، قد نسميهما: القطب الفني والقطب الجمالي، الأول هو نص المُؤَلَّفُ، والثاني هو التحققُ الذي يُنجزُه القارئ". كانت هذه الكلمات للمفكر والناقد الألماني فولفجانج أيسر، قصد منها أن يُقدم نظرية في القراءة من خلال تحليل وتفسر ذلك الفعل الواصل بين النص والمتلقي. والسؤال الآن، كيف للقارئ أن يستحضر هذا التفاعل مع النص؟
قدمت لنا الأديبة اليازية بنت نهيان بن مبارك آل نهيان، الإجابة عن هذا التساؤل في مُؤلَّفها الذي حمل عنوان «التثقيف زمن التأفيف»، الصادر عن دار ديوان للنشر والتوزيع في نهاية شهر أكتوبر للعام الحالي 2024م، ويقع هذا الكتاب في مئة وستة وثلاثين صفحة. حيث يكشف لنا هذا الكتاب عن مهارة اتقان قراءة النصوص وتحليلها تحليلًا نقديًا، والسير نحو التفكير العقلاني التأملي، من خلال تقييم الحلول أو الأفكار المعروضة علينا.
الجدير بالذكر أن هذا المُؤلَّف يتكون من ثماني موضوعات، وهم على الترتيب، الأول: الإعادة أم التكرار؟ والثاني: العادات أم الأعراف؟ والثالث: المقارنة أم التجرد؟ والرابع: الزمان أم المكان؟ والخامس: الاسم أم المعنى؟ والسادس: الخيال أم الواقع؟ والسابع: البحث في دولاب النوستالجيا. والثامن: الجمال أم الفائدة؟
تحاول الكاتبة خلال هذه الموضوعات تقديم المفتاح للقراء من أجل الوصول إلى الفهم الصحيح للنص المقروء، كما يُعد هذا الكتاب سمة مهمة وهي تحويل القارئ من مجرد متلقي ثابت يقرأ ما يقرئه من النصوص دون إحداث أي تغير، إلى نشاط قائم على النقاش والتساؤلات. بغرض الوصول إلى ما بين السطور، من خلال إقامة علاقة فكرية بين القارئ والنص.
وتبدأ الكاتبة موضوعها الأول بالحديث عن الهوية، على الرغم من اجتياح الغرب لعلم الأنساب، مع أن العرب من أسسوا لعلم الجيالوجيا، ويُعد اهتمام العرب بعلم الأنساب من الاهتمامات الفطرية والأزلية عندهم. كما استقت لنا الكاتبة نموذجًا لعلم الانساب من تراثنا العربي، عن قبيلة "بني عذرة" التي تنتمي إلى "قضاعة"، والتي مثلت بداية لانطلاق الشعر والخرافة.
كما كشفت الكاتبة في تأففها الثاني إلى أن المجتمع عبارة عن "نسيج غُزِل على مدار قرون"، وخيوط هذا النسيج تتألف من العادات والرمزيات، وتظهر المفاهيم الاجتماعية من خلال التواصل والتعامل بين أفراده. إلا أن مواقع التواصل الحديثة أسهمت في خلق نوع من التحدي في تحديد من نحن أمام الآخرين، ويكمن جوهر التواصل الاجتماعي في محتواه التعبيري، وبمقدور اللغة العربية، المتطور والمكتمل منذ الطليعة، مواكبة أي تطور حياتي وتقني آتٍ.
كما انتقلت الكاتبة في ملاحظتها الثالثة إلى أن الإبداع يُعَدُّ محركًا ثقافيًا إذا سلم من العبثية، وأينما تكون العبثية الثقافية. إلا أنه من جانب آخر، نجد أن أطباء علم النفس ينادون بالابتعاد عن المقارنة إلا عند المقارنة مع الذات. ولاحظت الكاتبة أيضًا أن التعرف على العادات المتوارثة وتقاليد الشعوب أمر يدعو إلى الاهتمام ويشدد دائمًا القارئ إلى الاطلاع. لذلك وجدت الكاتبة أن المعضلة الحقيقة هي أننا أصبحنا في حيرة أمام الثوابت والتطوير، كالذي يترقب الفسحة والخروج من البيت فترةً، ثم فجأة في بداية الرحلة يطلب الرجوع إلى البيت فورًا.
واتجهت الكاتبة ايضًا إلى التأفف من العبث الذي يقع في نطاق المسميات النمطية والاشتغال بها، كما أشارت الكتابة إلى أن أي مصطلح لغوي أن يقد إجابات عدة، كفرصة حديثة أخرى للتركيز الشديد على الكلمات، بغض النظر عن التطبيق العلمي أو الحقيقي؛ إذ لا وجود لمصطلح بريء أو عفوي لا يحتمل التأويل والتدقيق والتعمق.
ثم انتقلت الكاتبة إلى وجهة أخرى وهي إن الواقعية تخلق نوعا من التردد، أما الصورة، التي تأتي من عدسة الخيال، فتتفوه وتتحرك وتبدو مقنعة لك أثر من اقتناعك بالواقع. وخصوصًا، نرى أن للمسافرين تصورات عن إجراءات المطارات، أو بمعنى أدق أنهم يتخيلون تخفيف الإجراءات المزعجة أو التخلص من صورة الجواز المحرجة.
وأضافت الكاتبة أنه في عصر التأفيف، تتكاثر الحواجز، فمشاعر الحنين إلى الماضي "النوستالجيا" كثيرًا ما نحرص على زيارتها من النوافذ أو الأبواب الجانبية عبر مواقف مألوفة وغير فردية، ولما تنتابنا كثيرًا تلك المشاعر عند مشاهدة الأعمال السينمائية أو عند المرور بموقف أو حدث ما خلال يومنا. قد يكون متعلقًا برغبتنا في الشعور بالاطمئنان والإيجابية، كما اشارت الكاتبة خلال حديثها إلى مجموعة من شخصيات الأفلام والبرج المناسب لكل دور افتراضي سينمائي.
كما عرضت الكاتبة لفكرة الجمال وأشارت إلى أنه قد لا يعالج مشكلات معقدة، إذ يسعى الفن والجمال إلى تجنب المشكلات من خلال توسيع آفاق المجتمع إلى مستويات قديمة أو جديدة من الصقل. وتضرب لنا الكاتبة امثلة من تراثنا العربي عن الإبداعات الفنية التي ظهرت في عهد الدولة الأموية، وايضًا عن دمج السلطان المملوكي قايتباي في القرن الخامس عشر للآيات في أعمال الهندسة المعمارية، ففي عصره ظهرت عناصر الجمال، وفاقت الزخارف.
وختامًا، نجد أن هذا الكتاب يُعد إضافة حقيقية للمكتبة العربية، لِمَا يحمله من دلالة معرفية قوية، حيث حاولت الكاتبة خلال موضوعاته المتنوعة أن تطرق الباب الذي وقف أمامه الكثير من القراء ليكون هذا الكتاب هو المفتاح للدخول، بل السراج المنير الهادي نحو ثقافة حقيقية ذات رؤية نقدية دقيقة لا تحتمل الشك أو النكران. كأنها تريد من مُؤلَّفها هذا أن تُقدِم لنا درسًا معمقًا في التفكير الناقد، وإن شئت قل هذا الكتاب بمثابة الميزان الذي نستطيع به فلترة أفكارنا ومفاهيمنا حول كثير من العادات والمعتقدات الثقافية المتوارثة.
0 تعليق