شهد الوسط التقني خلال الأيام الماضية جدلًا واسعًا حول مدى قدرة نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي على التطور المستمر، مما دفع كبار قادة المجال إلى التصريح بآرائهم، فقد رأى بعضهم أن تحسينات الذكاء الاصطناعي قد وصلت إلى حدها الأقصى، في حين أكد آخرون وجود آفاق واعدة للتقدم المستقبلي.
وكان سام ألتمان، الرئيس التنفيذي لشركة OpenAI، من أوائل القادة الذين علقوا على التقارير التي انتشرت حول وصول النماذج اللغوية الكبيرة إلى مرحلة الثبات، ومواجهة كبرى الشركات في المجال انتكاسات وتأخيرات في الجهود الرامية إلى تطوير الجيل القادم من نماذجها، إذ كتب في منشور في حسابه في منصة إكس: “لا يوجد جدار”. وذلك في إشارة إلى عدم وجود حدود أو قيود تحد من التطور في مجال الذكاء الاصطناعي.
واتفق إريك شميت، الرئيس التنفيذي السابق لشركة جوجل، مع ألتمان، إذ قال خلال مشاركته في بودكاست (يوميات الرئيس التنفيذي): “إنه لا يعتقد بوجود حد أقصى لتطور النماذج اللغوية الكبيرة، أو على الأقل، لن يكون هناك مثل هذا الحد خلال السنوات الخمس المقبلة”.
وأضاف: “خلال السنوات الخمس المقبلة، سنشهد تطورات كبيرة في قدرات النماذج اللغوية الكبيرة، إذ قد تزداد قوتها بمقدار يتراوح بين 50 و100 مرة”.
كما طعن داريو أمودي، الرئيس التنفيذي لشركة (Anthropic) المنافسة لشركة OpenAI، وجينسن هوانج، الرئيس التنفيذي لشركة إنفيديا، في التقارير التي تفيد بأن تقدم الذكاء الاصطناعي قد تباطأ.
وقال آخرون، ومنهم: إيليا سوتسكيفر، الشريك المؤسس في OpenAI، ومؤسس شركة (SSI) الجديدة التي تركز في التطوير الآمن للذكاء الاصطناعي الفائق: “إن جهود توسيع نطاق التدريب السابق لنماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي قد وصلت إلى مرحلة التشبع”.
ورفض إيليا الإفصاح عن أي تفاصيل إضافية حول الطريقة التي يتبعها فريقه في (SSI) للتعامل مع هذا التحدي، مكتفيًا بقوله إن الفريق يعمل على نهج بديل لتوسيع نطاق التدريب السابق للنماذج، مما أثار العديد من التساؤلات حول طبيعة هذا النهج ومدى تميزه عن الأساليب التقليدية!
كما قال المؤسس المشارك لـ a16z: “لقد وصلت جميع نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي الموجودة في السوق حاليًا إلى مستوى من الأداء المتشابه، مما يقلل من حدة التنافس بينها”.
ولكن يمثل هذا الاعتقاد تحديًا وجوديًا لصناعة التكنولوجيا، لأنه إذا تبين أن أساليب تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي الحالية لم تَعد تحقق نتائج مرضية، فكيف يبرر قادة الصناعة الاستثمارات الضخمة التي تُضخ في هذا المجال، والتي تشمل بناء مراكز بيانات عملاقة وبناء محطات طاقة نووية جديدة؟
لماذا هذا الموضوع مهم؟
يُعدّ هذا الموضوع بالغ الأهمية نظرًا إلى تأثير الذكاء الاصطناعي في مختلف جوانب الحياة، ابتداءً من الاقتصاد والصحة ووصولًا إلى التعليم، كما أنه يؤثر بنحو كبير في الاستثمارات التي ضُخت في هذا القطاع، إذ تتجه الأنظار نحو تحديد التوجهات المستقبلية لهذا التكنولوجيا الواعدة.
وقد أثار هذا الجدل العديد من التساؤلات حول التحديات التي تواجهها الصناعة للوصول إلى الذكاء الاصطناعي الفائق، وكيف تستطيع الشركات التغلب عليها، وكذلك ما رؤى قادة المجال حول المستقبل؟
تحديات الوصول إلى الذكاء الاصطناعي الفائق:
لقد اتفق العديد من الخبراء في مجال الذكاء الاصطناعي بما يشمل: مؤسسو الشركات الناشئة والمستثمرون، والمحللون والخبراء السابقون في كبرى الشركات مثل جوجل ديب مايند و OpenAI، على أن الحل يكمن في استكشاف أنواع جديدة من البيانات، وتطوير أنظمة قادرة على الاستدلال المنطقي، وتطوير نماذج أصغر وأكثر تخصصًا. وأكدوا أن هذا التوجه سيساهم في فتح آفاق جديدة في مجال الذكاء الاصطناعي.
معضلة التدريب السابق للنماذج:
يشير الباحثون إلى عائقين رئيسيين تواجههما الشركات في المرحلة الأولية من تطوير النماذج اللغوية الكبيرة، والمعروفة باسم مرحلة (التدريب السابق)، وهما: ندرة البيانات وصعوبة الحصول على وحدات معالجة الرسومات.
1- النقص الحاد في وحدات معالجة الرسومات (GPUs):
تُعدّ وحدات معالجة الرسومات، وخاصة تلك التي تنتجها شركة إنفيديا، عنصرًا أساسيًا في تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي، فهي توفر القوة الحاسوبية الكبيرة اللازمة لمعالجة الكميات الضخمة من البيانات. ومع ذلك، يشهد طلب هذه الوحدات ارتفاعًا كبيرًا، مما يؤدي إلى نقص في المعروض وارتفاع في الأسعار.
ويوضح هنري تيلوي، الشريك في شركة رأس المال الاستثماري الفرنسية (Singular)، الوضع الحالي بقوله: “لو كان لديك ميزانية ضخمة تبلغ 50 مليون دولار مخصصة لشراء وحدات معالجة الرسومات، ستجد نفسك في قائمة الانتظار الطويلة لشركة إنفيديا، الأمر أشبه بمحاولة الحصول على سلعة نادرة جدًا، حتى لو كنت مستعدًا لدفع ثمن مرتفع”.
2- ندرة البيانات العالية الجودة:
يتمثل التحدي الثاني الذي تواجهه شركات الذكاء الاصطناعي في توفير كميات ضخمة من بيانات التدريب العالية الجودة، إذ تمثل هذه البيانات العمود الفقري لتطوير النماذج اللغوية الكبيرة، ومع ذلك غالبًا ما تكون محدودة وغير متاحة بسهولة، فالعثور على كميات كافية من البيانات ذات الصلة والممثلة لمجموعة متنوعة من المواضيع واللغات هو أمر بالغ الصعوبة.
فقد استنفدت الشركات العاملة في هذا المجال بالفعل معظم البيانات النصية المتاحة للجمهور عبر الإنترنت، وتشير تقديرات شركة الأبحاث (Epoch AI) إلى أن مخزون البيانات النصية القابلة للاستخدام سينفد بحلول عام 2028.
كما أكد ماثيو زيلر، مؤسس ورئيس مجلس إدارة شركة Clarifai، هذا الأمر بقوله: “الإنترنت ليس كبيرًا جدًا كما كنا نظن”. في إشارة إلى أن حجم البيانات المتاحة عبر الإنترنت لا يزال محدودًا، ولا يلبي طلب تطبيقات الذكاء الاصطناعي المتزايد.
التحول نحو البيانات الاصطناعية:
انتقل الباحثون من التركيز في كمية البيانات التي تُستخدم لتدريب النماذج إلى التركيز في جودتها، فبعد سنوات من تغذية النماذج بكميات ضخمة من البيانات، أدرك الباحثون أن هذا الأسلوب لم يَعد كافيًا لتحقيق التقدم المطلوب.
وتشرح شارون تشو، المؤسسة المشاركة والرئيسة التنفيذية لشركة (Lamini) هذا التحول بقولها: “في الماضي، كنا نعتمد على تغذية النموذج بأكبر قدر ممكن من البيانات دون الاهتمام بجودتها، لمعرفة ما الذي سينجح منها، ولكن هذا النهج لم يَعد فعالًا كما كان من قبل. الآن، أصبح من الضروري أن تكون البيانات التي نستخدمها عالية الجودة وملائمة للمهام التي نريد أن يقوم النموذج بحلها”.
وقد أدى هذا التحول إلى الاهتمام بالبيانات الاصطناعية، وهي ليست بيانات طبيعية ينتجها البشر، بل هي نصوص وصور وأكواد برمجية تنتجها نماذج الذكاء الاصطناعي، أي أن الأنظمة تتعلم مما تنتجه بنفسها.
وأكد دانييل بانفيلو، الرئيس التنفيذي لشركة (Aindo AI) الناشئة، أن البيانات الاصطناعية تقدم حلًا مبتكرًا لمشكلة نقص البيانات العالية الجودة في العديد من المجالات، وأوضح أن هذه البيانات الاصطناعية يمكن أن تُصمم خصوصًا لتلبية متطلبات محددة لأي مجال، مما يساعد الباحثين في إنشاء مجموعات بيانات أكثر دقة وشمولية.
وتكتسب البيانات الاصطناعية أهمية خاصة في مرحلة ما بعد التدريب، إذ يمكن استخدامها لضبط نماذج الذكاء الاصطناعي المدربة سابقًا على مهام محددة، مما يجعلها أكثر كفاءة في التعامل مع بيانات واقعية من مجالات متخصصة مثل القانون والطب.
كما كشف موظف سابق في شركة شركة جوجل ديب مايند عن تحول إستراتيجي كبير في تطوير نموذج (Gemini)، وهو أحد أهم مشاريع الذكاء الاصطناعي في الشركة، إذ انتقل المشروع من مرحلة التوسع السريع إلى مرحلة التركيز في الكفاءة.
وأوضح الموظف خلال تصريحاته لموقع (بزنس إنسايدر) أن هذا التحول جاء بعد إدراك الفريق أن تكاليف تشغيل مثل هذه النماذج اللغوية الكبيرة مرتفعة للغاية، وأنه من الأفضل تخصيص هذه النماذج لمهام محددة فمن خلال تدريبها بشكل أفضل ستكون أكثر كفاءة من الناحية الاقتصادية.
وقال توماس وولف، المؤسس المشارك والمسؤول العلمي الرئيسي في منصة (Hugging Face) المفتوحة المصدر: “أظهرت تجاربنا هذا العام مع مجموعة بياناتنا الاصطناعية التي تحمل اسم (Cosmopedia)، أنها تمتلك إمكانات واعدة في حل بعض التحديات المتعلقة بالبيانات، ولكنها ليست الحل السحري لجميع التحديات التي نواجهها الآن، بل هي جزء من حل أوسع”.
ومع ذلك، فإن استخدام البيانات الاصطناعية ليس خاليًا من التحديات، فهناك مخاوف من أن الاعتماد المفرط على البيانات الاصطناعية قد يؤدي إلى (انهيار النموذج)، مما يعني أن النموذج قد لا يعمل بشكل صحيح أو قد ينتج نتائج غير متوقعة، وذلك وفقًا لدراسة نُشرت في مجلة (Nature) في يوليو الماضي، وشددت الدراسة على أهمية توخي الحذر الشديد عند استخدام هذه البيانات، وذلك لتجنب الحصول على نتائج مضللة أو غير موثوقة.
تحول تركيز الذكاء الاصطناعي نحو الاستدلال والتفكير:
انتقل التركيز من مجرد تدريب النماذج على كميات ضخمة من البيانات إلى تطوير قدرة هذه النماذج على التفكير والاستدلال، فبعد أن وصلت النماذج اللغوية الكبيرة إلى مستوى من النضج، بات واضحًا أن هناك حاجة إلى المزيد من التطوير لتمكينها من التعامل مع مهام أكثر تعقيدًا.
ويُعرف هذا التحول الجديد باسم (الاستدلال)، وهو يشير إلى قدرة النموذج على الاستجابة لاستفسارات ومعلومات جديدة لم يسبق له رؤيتها من قبل، فبدلًا من الاعتماد بشكل كامل على البيانات التدريبية، تسعى النماذج الجديدة إلى فهم المعنى الكامن وراء الكلمات والقدرة على الربط بين الأفكار المختلفة.
وقد كشف ساتيا ناديلا، الرئيس التنفيذي لشركة مايكروسوفت، خلال مؤتمر Ignite، الذي عقدته الشركة خلال الشهر الماضي، عن تحول في نهج تطوير نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي، فبدلًا من السعي وراء نماذج تستجيب بسرعة فائقة لجميع الطلبات، أشار ناديلا إلى طريقة (الحوسبة في وقت الاختبار) Test-time compute – المستخدمة في نموذج o1 الخاص بشركة OpenAI – التي تسمح للنماذج بالاستغراق وقتًا أطول للتفكير في الاستفسارات المعقدة، مما يؤدي إلى نتائج أكثر دقة وجودة.
كما يعتقد نوام براون، الباحث في شركة (OpenAI) أن تأثير النموذج الذي يتمتع بقدرات استدلال أكبر يمكن أن يكون غير عادي، وقال خلال محاضرة له في (TED AI) الشهر الماضي: “لقد أثبتت التجربة أن جعل الروبوت يفكر لمدة 20 ثانية فقط، يؤدي إلى تحقيق الأداء المعزز نفسه مثل تكبير حجم النموذج بمقدار 100000 مرة، وتدريبه لمدة أطول بمقدار 100000 مرة”.
واقع التطور في نماذج الذكاء الاصطناعي:
أشار العديد من الخبراء إلى أن تقدم الذكاء الاصطناعي يتبع نمطًا لوغاريتميًا وليس خطيًا، ويعني ذلك أن كل خطوة تقدمية تتطلب موارد أكبر بكثير من الخطوة السابقة. فبعد أن حققت النماذج اللغوية الكبيرة قفزات كبيرة في الأداء خلال السنوات القليلة الماضية، أصبح من الصعب تحقيق تحسينات مماثلة في المستقبل القريب.
وشبهت شارون تشو، تقدم الذكاء الاصطناعي بمنحنى متعرج وليس بخط مستقيم صاعد، مؤكدة أن التقدم في هذا المجال لن يكون خطيًا منتظمًا، وأوضحت أن التطورات المستقبلية ستتطلب تكاليف أعلى بكثير مما نتوقعه حاليًا، مما سيؤدي إلى تباطؤ نسبي في وتيرة التقدم.
ومع ذلك؛ أكدت تشو أن هذا التباطؤ النسبي في التقدم سيؤدي في النهاية إلى ظهور قدرات تفوق توقعاتنا في أنظمة الذكاء الاصطناعي.
لذلك ستحتاج الشركات أيضًا إلى التفكير في مقدار التكلفة التي ستتحملها لإنشاء الإصدارات التالية من نماذجها ذات القيمة العالية، وقد حذر داريو أمودي، الرئيس التنفيذي لشركة (Anthropic)، من أن تكاليف تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي ستشهد ارتفاعًا ضخمًا في السنوات القادمة، قائلًا: “من المتوقع أن تصل تكلفة تدريب نموذج واحد في العام المقبل إلى مليار دولار، لترتفع إلى 5 أو 10 مليارات دولار في عامي 2025 و2026، كما تشير التوقعات إلى إمكانية تجاوز هذه التكاليف حاجز الـ 100 مليار دولار في المستقبل”. وتشمل هذه التكاليف وحدات معالجة الرسومات واحتياجات الطاقة ومعالجة البيانات.
ولكن ذلك يطرح سؤلًا مهمًا، هل المستثمرين والعملاء على استعداد للانتظار لمدة أطول للحصول على الذكاء الاصطناعي الفائق الذي وعدتهم به الشركات؟
لا تزال الإجابة عن هذا السؤال حتى الآن غير واضحة، لأنه بينما تَعد الشركات بتقديم قدرات خارقة للذكاء الاصطناعي، يواجه بعض العملاء تحديات وتجارب مخيبة للآمال، فعلى سبيل المثال، عند أطلقت مايكروسوفت روبوت (Copilot)، روجت له أنه سيعيد تشكيل علاقتنا بالتكنولوجيا، ولكن الواقع الآن يختلف تمامًا، فبعد عام من استخدامه، يواجه المنتج انتقادات واسعة بسبب أدائه المتواضع وتكلفته المرتفعة، وقد دفع ذلك بعض العملاء إلى التساؤل عن مدى استحقاقه لدفع المال!
ومن ثم تتجاوز مسألة انتظار تحقيق الذكاء الفائق الجانب الاقتصادي، لتصل إلى الجانب النفسي للإنسان. فهل ستكون التوقعات العالية التي رافقت هذا المجال كافية لدفع المستثمرين والعملاء إلى الصبر على تحقيق هذا الحلم، أم أن الإحباط من بطء التقدم قد يدفعهم إلى البحث عن خيارات أخرى؟
نسخ الرابط تم نسخ الرابط
0 تعليق