عزيزي الزائر أهلا وسهلا بك في موقع في المدرج نقدم لكم اليوم فيلم سابا.. الواقعية تعيد تعريف نفسها في بنجلاديش - في المدرج
في أحد مشاهد الفيلم البنجلاديشي SABA "سابا"، الذي شارك في المسابقة الرسمية لمهرجان البحر الأحمر في دورته الرابعة، هذا الشهر، تقلق البطلة، التي يحمل الفيلم اسمها، على أمها المقعدة المريضة التي راحت في شبه إغماء، وتحاول جسَّ نبضها واختبار تنفسها للتأكد من أنها لم تزل حيَّة.
لكن الأم، التي دائماً ما تلقي بعبارات تهكم حادة، تجيبها لاحقاً: "مجرد التنفس لا يعني أن المرء حي"، في إشارة إلى نوع الحياة البائسة التي تعيشها سجينة داخل شقتها الفقيرة وجسدها العليل.
في مشهدٍ لاحقٍ من الفيلم، يقول صديق البطلة، أنكور، وهو رجل متوسط العمر خَبَرَ الحياة وآلامها، تعليقاً على الأوضاع المادية والنفسية السيئة: "نحن نتنفس لمجرد أن نستطيع الحياة في هذا البلد".
الصورة تتكلم
تحمل هاتان العبارتان ليس فقط موضوع الفيلم ودلالات قصته وأحداثه، بل أيضاً اسلوبه الفني الذي يعبر عن هذه المشاعر في كل تفصيلة، من الكتابة إلى اختيار المكان، إلى التصوير، والإضاءة والألوان.
في "سابا"، وهو أول فيلم طويل للمخرج مقصود حسين، الذي كتبه وساهم في إنتاجه أيضاً، يتحقق أحد أهم صفات الفن الجيد، وهو التوحد بين مضمون العمل وشكله، ذلك أن كل العناصر الفنية في الفيلم تتضافر معاً للتعبير عن هذه الفكرة التي تتحدث عنها الشخصيات: "إننا لا نكاد نعيش بسب وطأة هذه الظروف".
تبدو شخصيات الفيلم جميعاً، وكأنها حبيسة الشرط الإنساني: الوضع الطبقي، والتكوين العائلي، والمدينة أو البلد التي يعيش فيها المرء، أضف إليها الشرط الكوني: الصراع من أجل البقاء، وعجز البدن، وقدر الموت.
يستخدم مقصود حسين ومدير تصويره أسلوب الكاميرا التي تهتز قليلاً طوال الوقت ما يخلق إحساساً بالتوتر، وكأن شيئاً ما على وشك الانفجار، كما يستخدم الألوان الداكنة، والتكوينات الضيّقة الخانقة، ربما باستثناء مشهد النزهة في الحديقة العامة، عندما تصطحب سابا أمها وصديقها لتقضي يوماً خارج سجن البيت الذي تعيش فيه. وهو المشهد الوحيد الذي يتسع فيه حجم اللقطات، وتنتعش الألوان بخلفيات الطبيعة الجميلة.
طيَّات من الأمل
مع ذلك، فإن "سابا" ليس فيلماً قاتماً، كما يبدو على السطح، ذلك أن تحت هذا السطح تختفي طيَّات من الأمل والشعور بالرضا، النابعين عن الصدق والإنسانية، واللذين يعالج بهما مقصود حسين موضوعه.
محور الفيلم هو شخصية سابا (تؤدي دورها نجمة السينما البنجلاديشية الصاعدة ميهازابين شودهري)، وهي شابة في أوائل العشرينيات، ابنة وحيدة، تعيش مع أمها المريضة المقعدة، شيرين (رقية براشي) بعد رحيل والدها، واختفاءه منذ سنوات.
تصاب الأم بأزمة صحية تهدد حياتها، وتستدعي إجراء عملية جراحية عاجلة لانقاذ قلبها الضعيف. ويتعين على سابا، التي ترعى أمها كطفل (تعد لها الطعام وتطعمها وتحممها وتحملها إذا لزم الأمر) أن تجد وسيلة للحصول على تكاليف العملية في أسرع وقت، ومن ثم تضطر إلى العمل في كافيتريا ومطعم للكبار فقط (حيث يسمح بالخمر والمخدرات ومصاحبة النساء)، كما تذهب إلى عمها لإخباره بقبول عرض شراء بيتهم، وهو العرض الذي كانت سابا وأمها يرفضانه في الماضي، لكن العم يساومها الآن لإعطائها نصف هذا المبلغ، بينما تواصل الأم رفض البيع، وتمزق أوراق التعاقد.
هذه الفترة العصيبة، في انتظار ما ستسفر عنه محاولات سابا لإنقاذ حياة أمها، تتحول إلى رحلة اكتشاف، ووعي، ومصالحة تنتقل سابا من خلالها إلى محطة جديدة، تغادر فيها البراءة والضعف، وتصبح أكثر شجاعة وتقبلاً لشروط الحياة.
خلال هذه الرحلة، تتعرف سابا إلى أنكور (مصطفى منور)، وهو رجل متوسط العمر، يعمل في المطعم الذي تلتحق به بطلة الفيلم، ويحاول مساعدتها، وتنمو بينهما علاقة حب هادئة، غير أن هذه العلاقة أيضاً تمر بعثرات تكاد تدمرها: أنكور يختلس زجاجات خمرٍ من المطعم في محاولة لكسب مزيد من المال؛ حتى يستطيع الهجرة إلى بلد آخر. وسابا، التي تصل إلى حد اليأس من الحصول على المال الكافي لجراحة أمها، تشي بأنكور لدى صاحب المطعم مقابل إعطاءها المبلغ.
بين سابا ومالوتي
يخلو "سابا" من الميلودرامية التي تقسم الناس إلى أخيار وأشرار، وتصبغ الأنماط الدرامية بتعميمات لا مثيل لها في الواقع؛ فهو فيلم ينتمي إلى الاتجاه الواقعي بجدارة، وهو ينسج، مع أفلام أخرى من بنجلاديش، صدرت خلال السنوات الماضية، اتجاهاً واقعياً يحمل بصمته الخاصة. من هذه الأعمال، مثلاً، فيلم "عزيزتي مالوتي"، إخراج شانكا داسجوبتا، وبطولة ميهازابين شودهري أيضاً، والذي عُرض ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان القاهرة الأخير.
يحمل "عزيزتي مالوتي" اسم بطلته أيضاً، وتلعب فيه شودهري دور زوجة شابة حبلى، يتوفى زوجها في حادث، فتنقلب حياتها إلى جحيم بسبب البيروقراطية، وقوانين الأحوال الشخصية، وأطماع الأقارب (يشبه أحداث المسلسل المصري "تحت الوصاية" إلى حد كبير).
عناصر مشتركة تجمع "سابا" بـ"عزيزتي مالوتي" غير اسم البطلة، مثل اعتماد الدراما على شخصية محورية نسائية، ورصد الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية من خلال القصة الدرامية، وكون الأحداث تدور في العاصمة دكا. ولكن هناك فوارق مهمة بين الفيلمين؛ إذ يجنح "مالوتي" أكثر للميلودراما، كما وصفتها أعلاه، من رسم تجريدي بالأبيض، أو الأسود للشخصيات، ومن إفراط تعبيري ودفع بالدراما إلى الحافة. فيما يميل "سابا" للنظرة الأكثر واقعية، حيث لا توجد شخصيات شريرة أو طيبة، وحتى سابا نفسها تعنِّف أمها وتضربها في نوبة مواجهة عصبية، ثم تشي لاحقاً بصديقها، والأم لا تخلو من العيوب أيضاً، فهي تتعامل بقسوة مع ابنتها، وتنتقدها دائماً، وكذلك أنكور، رغم حبِّه لسابا ورقة طبعه، إلا أنه لا يتورع عن ارتكاب بعض الجرائم الصغرى لكي يستطيع أن يحيا.
رحلة إلى التصالح
في مشهدٍ بارز من الفيلم، يجمع بين الأبطال الثلاثة يعرض التليفزيون خبراً عن الأحداث السياسية المتوترة والفساد، ويعلق أنكور منتقداً كبار الفاسدين الذين دمّضروا البلد، لكن الأم تنتقده وتتهمه أيضاً بأنه فاسد. ورغم أنها لا تعرف ما يفعله بالضبط، لكن خبرتها بالحياة تجعلها تعلم أن المناخ الفاسد يجعل الجميع فاسدين.
تتصالح سابا في النهاية مع شرط الحياة المتمثل في الموت، كما تتصالح مع أنكور إذ يقبل كل منهما الآخر، مدركين أنه لا يوجد إنسان أو وضع مثالي. و"سابا" يحقق هذا التصالح ليس بقبول الفساد، أو الخطأ، ولكن من خلال الفهم، والتعاطف، والنظرة الإنسانية الشاملة.
ويتمثل هذا الحب والتسامح كأكثر ما يكون في وجه ميهازبيان شودهري الجذَّاب والممتلئ بالمشاعر، وذلك من خلال عشرات اللقطات المقرِّبة لملامحها، في مختلف الحالات الشعورية التي تمر بها، حتى أن الرحلة التي تمر بها عبر الفيلم يمكن إيجازها في بعض هذه اللقطات المقرَّبة المعبِّرة.
*ناقد فني
0 تعليق