الوجه الآخر للأرض في رواية "مداري" الفائزة بـجائزة"بوكر" - في المدرج

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

عزيزي الزائر أهلا وسهلا بك في موقع في المدرج نقدم لكم اليوم الوجه الآخر للأرض في رواية "مداري" الفائزة بـجائزة"بوكر" - في المدرج

يظن من يقرأ عنوان الرواية، وينظر الى صورة الغلاف، سواء النسخة الإنجليزية الأصلية، أو الترجمة الفرنسية، أن وقائع الرواية تنتمي إلى عالم الخيال العلمي. 

صحيح أن وقائع رواية "مداري"، الحائزة على جائزة "بوكر" 2024، تجري في مركبة فضائية دولية مُعلّقة في السديم، ما وراء محيط الأرض والغلاف الجوي، لكن المركبة تقوم بمهمة علمية متعددة التخصصات، لمدة تسعة أشهر. 

في الفضاء الخارجي، يوجد زمن آخر، يتميّز بوجود 16 شروقاً للشمس في اليوم الواحد. هذا ما ترويه "مداري" الصادرة عن (دار فلاماريون) في باريس.

6 روّاد فضاء

كانوا ستة روّاد فضاء، أربعة منهم من دول اليابان وأميركا وإنجلترا وإيطاليا، واثنان من روسيا. أربعة رجال وامرأتان "يدورون حول أنفسهم رأساً على عقب، ينحنون في نزولٍ بطيء، يلتفون وينقلبون طيلة أيام متسارعة".

هذه الحركات التي تبدو بهلوانية أو راقصة، بفعل انعدام الجاذبية، هي إحدى ركائز الرواية، التي تنقلها لنا بوصفٍ دقيق، عمّا يجري داخل المركبة. 

فهي ليست مجرد حركات عادية، بل تترافق مع كل ما يقومون به من عمل ومأكل ومشرب ونوم وأحاديث، وترافق أحلامهم وذكرياتهم وهواجسهم العائلية المرتبطة بالكوكب الأزرق، الذي يرونه من خلال نوافذ المركبة متوهجاً تارة، ومظلماً تارة أخرى، لكن بشكل متواتر وسريع.

لا ليل ولا نهار 

 رصدت الكاتبة الحياة الاستثنائية داخل المركبة، حيث لا نهار ولا ليل عاديين، يسمحان بنشوء ما يشبه الحياة على وجه الأرض. لقد تركوها خلفهم هناك، حيث يؤثّر الزمن المضبوط وتوالي الفصول وأحوال الطقس والطبيعة، على أمزجة الناس وتصرفاتهم.

نقتطف من الرواية ما يلي: "إنها الساعة الخامسة مساءً على متن مركبتهم الفضائية. وعلى الأرض تحتهم تشير الساعة إلى منتصف النهار. أما على الجانب الآخر من العالم، فالساعة تشير إلى الغد، الذي سيصلون إليه في غضون أربعين دقيقة".

مهام وخبايا

ليس غريباً أن تسمي الكاتبة سامنثا هارفي أقسام الرواية الستة عشر مرةً صعوداً، ومرةً أخرى نزولاً، ما بين أداء المهمات العلمية في الحالة الأولى، والاختلاء بالذات وتذكر الأيام الخوالي، وخصوصاً مرحلة الطفولة، "إذ تكمن أهمية الرواية في إيقاعاتها وبنيتها"، بحسب صحيفة "الغارديان" البريطانية.

 داخل محطة الفضاء الدولية، ينشغل كل رائد من روّاد الفضاء الستة بمهمته. يراقب بيترو الإيطالي الميكروبات للتعرّف أكثر على الفيروسات والفطريات والبكتيريا الموجودة على المركبة. 

تزرع تشي اليابانية بلّورات البروتين، حاملة جهاز تصوير بالرنين المغناطيسي، لإجراء فحوصات الدماغ التي تُظهر تأثير انعدام الجاذبية عليه. 

يراقب شون الأميركي، ما يحدث لجذور النباتات عندما تفتقر إلى الجاذبية والضوء. وترصد نيل الإنجليزية، صحّة أربعين فأراً لمعرفة أثر العضلات في الفضاء. 

يقوم رومان وأنتون الروسيان بصيانة مُولّد الأوكسجين الروسي بزراعة خلايا القلب. 

جميع الروّاد يصوّرون من النوافذ كل موقع من المواقع المدرجة في القائمة التي أعطيت لهم. ومن حين لآخر، يخرجون من المركبة للقيام ببحث ما أو جمع النفايات والأشلاء المعدنية، التي تُركتْ ورُميت من قِبل مركبات مكوكية سابقة، بهدف دراسة تأثير الفضاء ودورانه اللانهائي. 

في الوقت نفسه، يعيشون حياتهم الذهنية والصحية الخاصة. فهناك من يفكر بقلق على زوجته وهما معاً على شاطئ في الفليبين، التي يقترب منها إعصار يراه من فوق، وهو يهدّدها بدمار قادم. 

وآخر يحلم باصطحاب ابنته إلى الفضاء. وهناك من تنعي وفاة والدتها، فيتأثر الجميع لمصابها. 

بينما يتذكر أحد الرائدَين الروسيّين والده الذي اختلق له، عندما كان طفلاً منبهراً برؤية أوّل رائد أميركي وطأ أرض القمر، حكاية الروسي الذي وطأته قدماه هو أيضاً. 

ثم هناك رائدة الفضاء التي لا تفتأ تتذكر أحباءها البعيدين، ويبدو كل هذا كي لا يشعروا بالقطيعة مع الحياة، في زمان ومكان مختلفين، طافيين في ظلام الفضاء السحيق.

واقع الأرض من الفضاء 

يتتبع القارئ المراحل التي سلكوها ليحققوا أحلامهم منذ الطفولة، بالتواجد كروّاد فضاء، بعد دراسة طويلة وتدريبات شاقة. 

ثم يتتبع كيف يحيون تجربة الفضاء، وكيف يرون الجانب الآخر من الأرض، على بعد مئات الآلاف من الأميال. فتجعلنا سامنثا هارفي، نرى بأعينهم المُطلة من نوافذ المركبة، صورَها المختلفة، من قارة إلى أخرى، ذاكرةً بلداناً ومُدناً وجبالاً وأنهاراً، بأسلوبٍ يأخذ من الشعر قاموسه التعبيري الجميل. 

تصف الكاتبة الأرض على هذا الشكل : "تلك الكرة المتدحرجة المتوهّجة التي ترمي نفسها لا إرادياً حول الشمس مرّة واحدة في السنة.. وتضيف: "إنها قطعة رقيقة من الضوء المنصهر".

وبشاعرية فائقة تصف الأرض قائلة: "هناك تحتها جنوب المحيط الهادئ وهو يمتد نحو ليلٍ مطلقٍ، كهاوية سوداءَ لا نهاية لها، بحيث لا يتبقى هناك أي كوكب، ويسود الخط الأخضر الناعم للغلاف الجوي لا غير، وعدد لا يحصى من النجوم، وعزلةٌ مذهلةٌ، فيبدو كل شيء قريباً جداً ولانهائياً"

طرائف الروس والأميركيين 

في مرحلة ثانية، تروي الكاتبة أفكارهم ونقاشاتهم حول موضوعات مختلفة، فنُطالع صفحات طويلة من الرواية، تتضمن ما يشبه تحليلاً فلسفياً وانتقاداً لاذعاً لما يجري على كوكب الارض، بتوظيفِ لغة الشعر دائماً. 

يتم التطرّق إلى معنى الوجود، ومعنى الفضاء السحيق، والزمن الكوني، وتغيّر المناخ، والإيمان بالله، وطبيعة التقدّم، وعواقب الحروب، وسعي الإنسانية لخرابها بفعل تناقضات السياسة والأنانية المفرطة للدول التي تُعتبر عظيمة. 

تقول هارفي : "يجب ألا ننسى أبداً الثمن الذي تدفعه البشرية مقابل لحظات المجد العلمي الذي تحقّقه، فهي لا تعرف متى تتوقف، ولا تعرف متى تنهي حياتها".

تذكر الكاتبة طرائف يعيشها روّاد الفضاء الستة، وخصوصاً تلك الحمامات المنفصلة في المركبة الفضائية الدولية. هناك واحدة خاصة بالروسيَّين تحمل عبارة  "المرحاض الروسي"، وأخرى خاصة بالأميركيين والأوروبيين واليابانيين، كتب عليها: "بسبب النزاعات السياسية المستمرة، يُرجى استخدام المراحيض الوطنية الخاصة بكم".

رواية قصيرة وقوية 

مجلة "النيويوركر" الأدبية قالت: "حقّقت سامنثا هارفي ما حاول كُتّاب معروفين تصوّره عن الأرض على بعد مسافة عالية، بالمنجزات العلمية التي وصل إليها عصرهم، مثل مارسيل بروست وفرجينيا وولف. وها هي تسافر بقرائها في زمن قصير جداً، إلى أقصى حدود يمكن الوصول اليها، لكي تُريهم العزلة التي يعيشها كوكب الأرض الحزين، ثم تعيدهم وقد أصابتهم دوخة العيش المستمر بلا توقف، ولا استقرار في المدارات الكوكبية، على غرار الروّاد الستة". 

نالت الرواية استحسان النقّاد من معظم الصحف الناطقة بالإنجليزية في الغرب وفي الهند ودول أخرى، على الرغم من عدد صفحاتها القليل، وعدم تضمّنها حبكة وتشويق. 

عوّضت الكاتبة ذلك بالوصف الرائع والإيقاعي، عبر كتابة نثرية جاذبة، لتؤكد  بأن الإبداع الروائي لا يتبع قواعد ثابتة، ولا يشترط عرضاً طويلاً للتفاصيل، بل التوتر عالي القدرة، على قول الكلمات بحقيقة العالم، أي ما يجعل القارئ لا يستطيع الفكاك من أسر جمالها. 

وعين ما صرّح به رئيس لجنة تحكيم جائزة "بوكر" 2024 عندما قال: "بفضل لغتها الغنائية وبصيرتها الاستشرافية، تجعل هارفي عالمنا غريباً وجديداً بالنسبة لنا".. 

 

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق