عزيزي الزائر أهلا وسهلا بك في موقع في المدرج نقدم لكم اليوم فيلم Ravens.. استعارة الوحش الداخلي - في المدرج
في عالم الأبيض والأسود، يصبح المصور متوراياً لحقيقة داخلية عميقة تنبض بين الظل والضوء، حتى يتلاشى الضوء تماماً ويتسع السواد.
هذا ما يقدمه فيلم السيرة الذاتية Ravens (الغربان)، عن المصور الياباني المحترف ماساهيسا فوكاسي، صاحب كتابه الفوتوغرافي الشهير "عزلة الغربان" 1976-1982، والذي عُرض في مهرجان البحر الأحمر السينمائي في دورته الرابعة ضمن قسم روائع عالمية، بعدما عُرض في مهرجان طوكيو السينمائي، وحصل على جائزة الجمهور من مهرجان أوستن السينمائي.
والفيلم هو التجربة الروائية الثانية للمخرج والكاتب البريطاني مارك جيل، بعد فيلم السيرة الذاتية الأول "England of Mine"، ليقدم هذه المرة سيرة فنان مضطرب بعيون زوجته وأيقونة صوره الفوتوغرافية.
الغراب: القرين
شخصية ماساهيسا فوكاسي، يجسد شخصيته الممثل تادانوبو أسانو، المرشح لجائزة "إيمي" بعيونه المرهقة وأصابعه التي تحمل الكاميرا، كما لو أنها امتداداً عضوياً لجسده، يعيش في علاقة جدلية مع العالم حوله.
في افتتاحية الفيلم، يظهر كائن على هيئة غراب ضخم، ريشه أسود لامع اللون، كشخصية رمزية تقف خلفه، يستخدم المخرج مارك جيل شخصية الغراب كرمز حي يُظهر الصوت الشيطاني الداخلي لفوكاسي. الغراب، الذي يهمس له في لحظات الوحدة أو الاحتفال، تحول من استعارة إلى كائن حي يتجول في المنزل، يحتسي القهوة، ويشعل السيجار، الغراب في كل كلمة همس منطوقة يمثل فلسفة كاملة عن الشك واليقين، الفن والواقع.
في مشهد صاخب وسط حفلة ماجنة، يطارد الغراب فوكاسي ليُخبره: "إما أن تكون فناناً أو لا تكون، العقلانية ستكلفك"، جملة تقع كالصاعقة على فوساكي لتذكره بأن الإبداع يتطلب التزاماً مطلقاً، ويتصاعد صراعه بين واجباته الشخصية والزوجية وبين شغفه الفني، بينما تدفع القصة نحو تعقيد درامي عميق.
تُحدثه وكأنها تجسد وعيه العميق أو لا وعيه الغارق في التساؤلات. يخبره الغراب بأن (المستقبل لا ينتظر، والندم رمال متحركة ، قاع دون نهاية)، في إشارة إلى الوقت الذي يلتهم المبدعين الذين يترددون في اتخاذ قرار بين الفن والحياة.
تتجسد هذه الثنائية بوضوح في علاقته بوالده، الذي كان بدوره مصوراً، لكنه مثّل بالنسبة لفوكاسي الفشل والخوف من التكرار. المشاهد التي تُظهر الصدام بينهما تُبرز التوتر المستمر بين الحاضر والماضي، بين الطموح والإرث، ما يجعلنا نتساءل: هل يحمل الفنان عبء أجداده كما يحمل أدواته؟، وهل يكون الإبداع خلاصاً أم لعنة؟
يوكو: الأثر الذي لا تصوره العدسة
تُقدَّم "يوكو" -التي تؤدي دورها الممثلة كومي تاكيوتشي- حبيبة فوساكي بوصفها نقطة التحول الحاسمة في حياته، المرأة التي تجسدت كضوء في ظلمة عزلته، وكحلم شكَّل من خلاله رؤيته للعالم.
كان فوساكي يصورها طوال النهار والليل، في كل الأماكن والأوضاع والحالات، تكلل هذا الجموح والشغف بالزواج، زواجهما كان أشبه بعقد بين روحين تائهتين، فبينما كانت يوكو تبحث عن الأمان وسط عاصفة فوكاسي النفسية والمادية، وجد هو فيها نافذة مفتوحة على إنسانيته الضائعة، حتى آلت هذه العلاقة المعقدة إلى الانفصال الروحي، رغم بقاءهما كزوجين في واحة وسط صحراء الوحدة.
من أكثر المشاهد التي تنتفض فيها الزوجه لذاتها، عندما تصد توجه الكاميرا نحوها بانفعال: "أزح هذا الشيء، فلتراني فقط بعينيك"، فيقول لها: "أنا أراكِ"، فتجيبه بحسرة: "أنت ترى نفسك!".
تمثل هذه العبارة ذروة الوعي بالعلاقة بين الفنان وموضوعه، إذ يتضح أن يوكو لم تكن ملهمته، بل انعكاساً لكل ما كان ينقصه أو يخشاه، إنها التجسيد الحي لما فقده في سعيه الدؤوب نحو الكمال الفني.
كان ينظر إليها عبر عدسته وكأنه يبحث عن ذاته الضائعة في ملامحها، هذه المواجهة القصيرة، ببساطتها الحادة، حملت فلسفة كاملة حول طبيعة الحب: الرؤية الحقيقية التي تتجاوز عدسات الفن وحدوده.
ذلك أن يوكو كانت تراه بوضوحه وغموضه، لكن الكاميرا -رمزه الأسمى- كانت دائماً حاجزاً يفصل بينهما، إنها علاقة متأرجحة بين الاحتواء والتصدع، تتبلور في مواقف عابرة لكنها محورية، مثل مواجهتها لصوره قائلة: "ما تراه أنت فن، أراه ندوب".
يوكو وجدت في الكاميرا قيداً، وفي الضوء مركزاً، جعلها تتوهج بينما يُظلم عالم فوكاسي الداخلي. هذا التوتر يبرز عندما منحت الفرصة لوساكي أن يقيم معرضاً فوتوغرافياً في أهم الصالات الفنية في نيويورك، صالة "موما"، ففي ليلة افتتاح المعرض، كان الجمهور ملتفاً حول يوكو، كونها بطلة جميع الصور المعروضة، بينما غرق فوكاسي في حنقٍ صامت، جسّد صراع الفنان مع نجاحه الشخصي الذي يتقاطع مع نجاح من أحب.
النكسة والنهوض: مسار دائري
ينغمس فوكاسي في الاكتئاب وإدمان الكحول بعد رحيل يوكو ومحاولته قتلها. يصبح الفن مرآة سوداء تعكس هشاشته بدلاً من قوته، كان يبحث عن الموت، لكنه اكتشف أن الموت أيضاً يبحث عنه، ولكي يتعافى، ويتجه إلى ما يشبه قرينه، فيُقيم معرضاً مخصصاً للغربان دون صورة واحدة لوجه بشري، بعد أن كانت يوكو بطلة حكايته ومصدر نجوميته.
تُمثل صور الغربان تأملاً مأساوياً في ذاته، كما تُشير يوكو بنظرتها الحزينة للغراب، الذي كان في البداية دليلاً فلسفياً، يتحول إلى نذير شؤم، وكأن حياته وصلت إلى نقطة اللاعودة.
نص من حرير
برؤية سينمائية متفردة تمزج بين الرمزية والواقعية النفسية، لتقديم صورة عميقة لحياة المصور الياباني ماساهيسا فوكاسي. البنية الدرامية للسيناريو تحمل أبعاداً جمالية عميقة تُثير التأمل دون الوقوع في التبسيط أو المباشرة.
يعتمد السيناريو على توظيف لغة حوارية مقتضبه لكنها مكثفة، إحدى جماليات النص تكمن في طبيعة الحوار بين "فوكاسي" و"الغراب"، فهو ليس مجرد أداة بلاغية أو خيالاً شعرياً، بل كياناً نفسياً ينطق بمكنونات الشخصية ويعكس صراعاتها مع ذاتها ومحيطها.
المشاهد الافتتاحية تجسد عبقرية البناء الدرامي، إذ يظهر الغراب ككائن مظلم وملهم، ينقل فلسفة الفيلم حول الحلم والفن والاختيارات الحياتية. الحوار: " أنت تحلم، لكن ليس بما فيه الكفاية!".
تصاعد الحبكة يظهر في المواقف الحاسمة، مثل مشهد ليلة افتتاح المعرض، حين تنكشف هشاشة العلاقة بين الزوجين. الشعور بالاستحقاق والإهمال يتداخلان في حوار صديقه: "يوكو نجمة، هي من صنعت عملك"، هذه الجملة تقلب الأدوار وتجعل يوكو المحور غير المباشر لإبداع فوكاسي، ما يمنح السيناريو بُعداً شديد الواقعية عن نموذج اعتماد توهج الفنان على من حوله بصورة أنانية مطلقة.
جدال الغراب المستمر مع فوكاسي يُشكِّل حالة من التأرجح بين الوهم والحقيقة، بين الغريزة والعقل. عندما يؤكد الغراب بحزم: "لا يوجد فن دون إراقة دماء"، يُعبِّر عن ثمن الإبداع، وما يتركه الفنان وراءه من خسائر شخصية هائلة.
في النهاية، تُختزل العبقرية السينمائية للسيناريو في مشهد لقاء يوكو وفوساكي بعد سنوات، حين تقف أمام صور الغربان قائلة: "لا أرى إلا صوراً ذاتية".
خاتمة مُثقلة بالجمال والمأساة
ينجح مارك جيل، في نقل تعقيد حياة فوكاسي إلى الشاشة بطريقة لا تُسرف في الدراما، لكنها تغوص عمقاً في جوهر الإنسان المبدع. الفيلم لا يحكي فقط عن المصور الياباني، بل يلامس كل فنان يبحث عن ذاته بين أدواته والواقع. إنه عمل سينمائي لا يُنسى، يُجبرنا على مواجهة الأسئلة الكبيرة حول الحب، والفن والخسارة.
ولأن الأشياء تتضح بأضدادها، يقف مارك حتى وقوع فوساكي إلى الهاوية عند نقطة التقاء الفن بالذات، العاطفة والهوس، من خلال عدسة تحتفي بالغموض وتتجاوز السرد التقليدي، لتغوص في أعماق المبدع الذي تحاصره أشباحه الداخلية.
0 تعليق