عزيزي الزائر أهلا وسهلا بك في موقع في المدرج نقدم لكم اليوم "سنو وايت".. في محاولة للفرار من السجون التي لم تخترها - في المدرج
فيلمان مصريان ضمَّتهما هذا العام مسابقة الأفلام الطويلة، ضمن فعاليات النسخة الرابعة من مهرجان البحر الأحمر السينمائي (5-14 ديسمبر)، هما "البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو" إخراج خالد منصور، و"سنو وايت" إخراج تغريد أبو الحسن، الأول شهد عرضه العالمي في الدورة الـ81 لمهرجان فينيسيا الدولي، والثاني استقبلت شاشة "البحر الأحمر" عرضه الأول في العالم والشرق الأوسط.
نافس الفيلمان المصريان عدداً من التجارب العربية المهمة في عروضها الأولى بالمنطقة أو العالم، أبرزها العراقي "أناشيد آدم" لعدي رشيد، والتونسي "الذراري الحمر" للطفي عاشور، والفلسطيني "نحو عالم مجهول" لمهدي فليفل، إلى جانب السعودي الجديد "صيفي" لوائل أبو منصور، وفاز الأول بجائزة لجنة التحكيم في حين حصل الثاني على جائزة افضل ممثل لمريم شريف.
كلها تجارب شديدة الخصوصية سواء على مستوى موضوعاتها، أو أبطالها؛ فـ"السيد رامبو" هو محاولة شاب لإنقاذ كلبه من انتقام أحد جيرانه، بعد أن عضَّه الكلب دفاعاً عن صاحبه، بينما "سنو وايت" هو مغامرة ميلودرامية لخلق حكاية خيالية، مثل حكايات سندريلا وبيضاء الثلج، بطلتها فتاة ثلاثينية محبوسة داخل جسد يعاني من قصر القامة (قزمة)، بينما تملؤها الرغبة في أن تعيش حياة طبيعية، عادية مثل بقية البنات.
الأميرة الشعبية
"إيمان" فتاة من قصار القامة في الأربعين من عمرها تقريباً، أو كما تقول من مواليد 1984، تعمل موظفة في أحد القطاعات الحكومية البيروقراطية العفنة، المليئة بالسلالم، وأعطال المصاعد وأضابير الملفات العالية، لكنها تملك قدراً كبيراً من المرح، وخفة الروح، والرشاقة التي يسمح بها جسدها القريب من الأرض، وكل ما يشغلها في الحياة الروتينية المكررة أمران متوازيان: تزويج أختها الصغرى التي ربَّتها كابنة لها، والعثور على الأمير الذي يمكن أن يهمس لها بكلمة الحب لكي تستيقظ من كابوس الجسد القزمي الذي تعيشه منذ ولادتها بهذه الهيئة، أو كما نرى صورها وهي لا تزال صغيرة على حائط الشقة الكالحة التي تعيش فيها مع أختها.
تذكرنا أزمة إيمان، وأختها الصغرى، وغياب الحضور الرجولي المطلوب سوى من عمَّين متهالكين ذكورياً، بأزمة فيلم "أخضر يابس" للمخرج محمد حماد قبل عدة سنوات، خصوصاً مع محاولات "إيمان" استكمال القطعة الناقصة في جهاز أختها الصغرى، وهي الثلاجة التي تطلبها أم العريس التي تظهر في هيئة أرملة سوداء كئيبة وناقمة على العروس وأختها طوال الوقت. بالطبع القياس مع الفارق، فـ"سنو وايت" هو محاولة لصناعة حكاية خيالية بتفاصيل واقعية، وبقدر ما يحتوى على شطحات طريفة وجذَّابة - مثل هيئة أم عريس الأخت كما أشرنا والتي ترتدي السواد طوال الوقت هي وبناتها حتى في فرح الابن في النهاية - بقدر ما يلوّث خياليته المذاق الميلودرامي المصري، الذي لا ينفك يتجلى في هيئة حوار تكسوه لغة الأفلام الأبيض والأسود - بتعبيرات مثل دق العصافير وما شابه - أو سياقات أدائية في تجسيد الشخصيات، خاصة بالنسبة لشخصية "إيمان" التي قدَّمتها الممثلة مريم شريف، بمرجعيات الشخصيات النسائية الشعبية في الأفلام الكلاسيكية العتيقة.
الحلم الخوارزمي
تعيش "إيمان" حلماً بالعثور على فارسها عبر أحد مواقع الزواج، تقدم لنا المخرجة تمهيداً جيداً لهيئة "إيمان" الداخلية كما ترى نفسها، فتاة جميلة محبَّة للحياة تنتظر "في يوم وليلة" أن تذوق "حلاوة الحب" - كما تكشف لنا أغنيتها المفضلة في الفيلم للمطربة وردة - قبل أن تقف أمام شاشة اللاب توب الخاص بها، تذهب لعمل جلسة تصوير خالعة حجابها وتطلق شعرها المتدرج، ومتخذة أوضاعاً أنثوية رقيقة ولافتة، قبل أن تحصل على الصور محتفظة بها لنفسها، بينما لا تتمكن من البوح للشاب الذي تحادثه على الموقع بحقيقة أزمتها المادية والوجودية.
يتحرك فيلم "سنو وايت" بين نوعين من الحبكات؛ الأولى هي حبكة "القنبلة الموقوتة"، ونعني بها أن الجمهور يعرف حقيقة "إيمان" بينما لا يعرف الشاب الذي تحدثه هذه الحقيقة – يُحسب للمخرجة بشكل جيّد اختيار محمد ممدوح بجسده الضخم جداً المناقض تماماً لهيئة وجسد "إيمان" - وبالتالي نحن أمام عدٍّ تنازلي طوال الوقت لمعرفة رد فعل الشاب عندما يكتشف حقيقة جسد "إيمان"، وهو رد فعل واقعي ومتوقع جداً، خصوصاً مع رفضها المستمر محاولات أحد قصار القامة الذكور التقرب منها رغم الصداقة التي تجمع بينهما بشكلٍ طيب وحميمي دافئ.
أما النوع الثاني فهو "رحلة البطل"، حيث تقطع "إيمان" شوطاً لا بأس به في محاولة الحصول على قرض للثلاجة التي تريد أن تشتريها لأختها، وهي رحلة اجتماعية ميلودرامية مكررة، وإن كانت تتسم هنا ببعض الطرافة في التعاطي مع محاولات "إيمان" الضغط بصورة قانونية للحصول على حقها في سلفة من راتبها المستحق.
لا تبحث "إيمان" عن الزواج بل الحب، ترفض أن تعترف أن الجسد جزء من أدوات الحب، تعيش في مثالية شعورية تحمي بها نفسها من الإحساس المستمر بضآلة الجسد، وفساد الصورة المادية المتوقعة لفتاة في مثل انطلاقها وقوتها الشخصية.
هذا البحث يحرر الشخصية من نطاق الميلودراما الضيّق الذي ضربه الأداء حول الشخصية، ويقفز فوق العلاقة النمطية بينها وأختها الصغرى - التي يبدو أنها شاهدت الكثير من أعمال الفنانة شريهان قبل أن تقدم الدور - كذلك يمنح السيناريو مساحة عمق تتجاوز الأزمة الاقتصادية التقليدية جداً في مسألة تجهيز الأخت الصغرى والحصول على قرض للثلاجة، وكعادة الأعمال الأولى فإن المخرجين/ات تفور بداخلهم الرغبة في التلويح بأكثر من قضية في حيّز الشريط الفيلمي المكثف، ما يتخم الإيقاع في بعض الأحيان بالبطء وخزلان الرشاقة السردية المفترضة.
توافق "إيمان" على شرط شراء الثلاجة على مضض من أجل أختها، رغم عدم قدرتها المادية، ويتحرك الفيلم في سياق البحث عن حل لهذه الأزمة مستعرضاً كون "إيمان" شخصية قوية وعنيدة، اختيار الثلاجة أيضاً كأضخم جهاز كهربائي في جهاز العروس اختيار دقيق وطريف ومقصود أيضاً، لخلق نفس حالة التناقض التي أشرنا لها في اختيار ممثل ضخم البنية مثل ممدوح، خاصة أن الكاميرا تتحرك كثيراً في مستوى نظر "إيمان" إلى العالم، أو بنظرة فوقية تظهر مدى قلة حيلتها الجسدية أمام كتل المجتمع المُحبط والعنيف من حولها.
ربما لا يظهر الاتصال غير المباشر بين البحث عن إمكانية لشراء الثلاجة، وإصرار أهل العريس عليها رغم قدرتهم المادية الكبيرة -الظاهرة في سيارتهم الضخمة الحديثة، وهو أيضاً اختيار جيد لفكرة ضخامة الأشياء في مقابل صغر حجم إيمان- وبين اعتبارات إيمان الخاصة بأن الحب أهم من المادة/ الجسد، وأن من يحبها من داخلها لن يتوقف أمام شكلها الخارجي، وهو الرهان الذي دفعها للكذب على العريس الخوارزمي، ومحاولتها نسج شباك شعورية دافئة حوله لإيقاع روحه في محبة روحها؛ حتى تتجمل جسدياً في عينيه حين يراها.
تتداخل الميلودراما مع اللفتات الرومانتيكية الحساسة والقضية الوجودية التي يطرحها الفيلم، خصوصاً في علاقة إيمان بأختها كما أشرنا، على سبيل المثال يبدو الحوار مكرراً جداً بين "إيمان" والأخت الصغرى في كل مرة تعترض فيها الأخت على تصرف أو فعل لإيمان، يمكن أن يحول دون إتمام الزيجة، إذ تنهي إيمان النقاش بجملة واحدة تبدو أيقونة من أيقونات الأفلام القديمة: "اتفضلي ادخلي على أوضتك!).
صحيح أن المخرجة لا تفسد تصاعد الصراع سواء على مستوى انتظار انفجار القنبلة -مقابلة الشاب المغترب القادم من خلف شاشة الكومبيوتر- أو مستوى رحلة شراء الثلاجة، وذلك بتلفيق بعض الصدف أو دفع الأحداث للتقدم بصورة مفتعلة، لكن تظل اللمسة الميلودرامية الحوارية والأدائية التي لا تتمكن المخرجة، بحكم حداثة تجربتها أو ربما عدم دراستها للبيئة الخاصة بفيلمها بصورة معمقة، من تجاوزها، أو السيطرة عليها في كثير من المشاهد.
نقابة الأقزام
كما سبق وأشرنا، فإنَّ محاولة صنّاع الأفلام في تجاربهم الأولى طرح العديد من القضايا والأفكار، أو الهموم في تصوّر بأن هذا يمكن أن يمنح الشريط الأول ثقلاً نفسياً، أو اجتماعيا، أو فكرياً، فإن الفيلم ينجرف بشكلٍ دعائي أو شبه إعلاني للحديث عن نقابة الأقزام بالإسكندرية، في استغلال لظهور شخصية القزم الذي يتقدم كعريس مناسب لإيمان بينما ترفضه هي؛ لأنها لا ترى نفسها قزمة بحاجة إلى شخص في مثل طولها!
يقدم لنا الفيلم معلومات كثيرة عن النقابة في مادة مصوَّرة أشبه بإعلانات الجمعيات الخيرية!، لا من خلال عينا البطلة، أو أي سياق درامي تفاعلي بينها وبين الشاب المتقدم لها، أو حتى أي من الشخصيات التي يمكن أن تتعرف عليها في النقابة -حين تذهب للحصول على قرض لكونها من قصار القامة- رغم أن الحكاية لا تحتمل مثل هذه الدعاية، بل إنها تفسد قدراً كبيراً من كون فرضية الفيلم في حد ذاتها أكثر تجريداً من كونها تخص قصار القامة فقط!
فالنظرة الأكثر انفتاحاً وشمولية، تجعلنا أمام معضلة وجود إنسان أمام قدرٍ لم يختره سواء كان هذا القدر جسد ضئيل، أو مرض عضال، أو عاهة مستديمة، أو على حد تعبير "إيمان" حين تواجه الرجل الذي تصورت أنه أحبها لروحها "أنا محبوسة في جسم ما اخترتوش"، وتضييق مساحة المعاناة في زاوية قصار القامة فقط يشد القضية أصلاً باتجاه التعاطف، بدلاً من أن يطلقها في أفق الاستغراق في تصور أن كل منها يمكن أن يكون "محبوساً" في قدر مادي معين لم يختره، وينتظر من يساعده على التحرر، أو من ينظر إلى روحه لا إلى هيئته الخارجية بمحبة، وقبول، وفهم شعوري.
حتى المشهد الذي ربما أرادت المخرجة أن تخلق منه ذروة مفترضة، حين تذهب "إيمان" إلى الإسكندرية بعد مواجهتها الدامية مع الشاب الرافض لقامتها، فنتصور أنها ذاهبة للقاء القزم الذي تقدم لخطبتها بينما لا نراها تفعل ذلك -لأنها لا تبحث عن زوج كما ذكرنا بل عن محبة من نوع خاص- حتى هذا المشهد الذي تداعب فيه طفلاً صغيراً من قصار القامة في البحر، وكأنها تتحرر من حكايتها المؤلمة أو الرفض الذي واجهته من حبيب ناكر للروح، يفقد الكثير من رونقه العاطفي والشعوري بسبب إصرار السيناريو أن يتم هذا في نطاق شاطئ نقابة الأقزام، وليس في نطاق أكثر رحابة ووجودية من كونها قضية اجتماعية تحتاج إلى حلول جذرية، أو دعم معنوي أو خيري.
وهو ما يقودنا للحديث عن نهاية الفيلم الذي ترقص فيه "إيمان" على أغنيتها المفضلة "في يوم وليلة"، والتي تشكل شعاعاً قوياً يكشف حقيقة الأفكار التي تشغل بالها الروحي، أو أروقتها النفسية والشعورية الرقيقة، حيث تذكرنا رقصة إيمان برقصة "فتاة المصنع" في نهاية فيلم محمد خان الشهير!، بنفس سياقات محاولة التحرر من الإحباط العاطفي، وطرد أحاسيس التمييز الطبقي أو الجسدي والإبقاء على نقاء الحلم برَّاقاً في انتظار من يهمس للأميرة بكلمة الحب لكي تستيقظ من نومها الكابوسي الطويل.
ربما يأتي المشهد كتحية لفيلم خان أو "فتاة المصنع"، وربما كان مجرد أصداءٍ لم تتمكن المخرجة من السيطرة عليها، فظنَّت أنها من ابتكار خاطرها السينمائي، لكن المشهد حتى على مستوى الديكور والتنفيذ -بعدد قليل جداً من الكومبارس يمثلون المعازيم وعدد ضخم من الكراسي الخالية بشكل غير مبرر- كل المشهد في الحقيقة لا يليق كثيراً بخاتمة الحكاية الأسطورية، أو لنقل باستمراريتها، ربما يليق بخاتمة للسياق ميلودرامي الكلاسيكي -زواج الأخت الصغرى والاطمئنان على مستقبلها- لكنه أقل فخامة من السياق الوجودي والعاطفي للحكاية التي حاولت المخرجة أن تبجلها بشكلٍ خيالي عبر عنوان الفيلم، ومحطات صراع البطلة ضد قدر لم تختره، وسجن لا سبيل للفرار منه.
*ناقد فني
0 تعليق