"مئة عام من العزلة" في مسلسل نتفليكس: ملحمة تليق برواية ماركيز - في المدرج

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

عزيزي الزائر أهلا وسهلا بك في موقع في المدرج نقدم لكم اليوم "مئة عام من العزلة" في مسلسل نتفليكس: ملحمة تليق برواية ماركيز - في المدرج

مغامرة كبيرة من منصة نتفليكس أن تقوم بانتاج مسلسل One Hundred Years of Solitude، عن رواية "مئة عام من العزلة"، تلك الرواية التي كان الجميع متأكداً، وأولهم مؤلفها نفسه، جابريل جارثيا ماركيز، أنها لا يمكن تحويلها إلى وسيط سينمائي أو تليفزيوني.

مغامرة لا يضاهيها سوى شجاعة صنّاع المسلسل، خاصة كتّاب السيناريو، ومخرجيه، الذين تصدوا لمصارعة وترويض هذا الوحش المخيف، الذي يحمل اسم "مئة عام من العزلة".

والنتيجة في كلمتين: رائعة، وتفوق كل التوقعات. 

بين الأصل والصورة

حتى ندرك قدر الإنجاز الذي حققته المنصة بانتاجها الضخم وفريق العمل من الموهوبين المخلصين في شتى العناصر الفنية، علينا أن نعود إلى الأصل الأدبي قليلاً.

هذه الرواية، التي صدرت 1967، أحدثت على الفور دوياً من النجاح النقدي والجماهيري، وترجمت لمعظم لغات الأرض، وكانت أهم أسباب حصول ماركيز على جائزة نوبل في 1982.

ورغم أن ماركيز كان كاتب سيناريو محترف، بجانب الأدب، وعاشق للسينما، ووافق على بيع حقوق كل قصصه، تقريباً، للسينما، إلا أنه رفض رفضاً قاطعاً تحويل "مئة عام من العزلة". 

ومما يُنقل عنه، قوله أن الرواية "مكتوبة ضد السينما" و"أنها يمكن أن تحول فقط إذا حكيت بالإسبانية في عمل يصل طوله إلى 100 ساعة" وفي قول آخر "100 سنة"!

ويعلم كل من قرأ، أو حاول قراءة، الرواية، مدى صعوبتها، بالرغم من أنه سيقع غالباً، إذا بذل قليلاً من الجهد، أسيراً لسحرها العجيب الذي لا يٌنسى ولا يشبه قراءة عمل آخر. 

ويُنقل عن ماركيز أيضاً أنه كان يطمح، حين كتابتها، إلى إنجاز "عمل تصبح قراءته بمثابة معايشة حلم عجيب وغريب وفاتن".

ويكمن سر الرواية، كما أظن، في هذه الفكرة: أن تكتب رواية تتبع تاريخ عائلة منذ تأسيسها حتى انحدارها على مدار 6 أجيال، محملة بإحالات لتاريخ البشرية وتاريخ كولومبيا – موطن ماركيز ومحل الرواية- على شكل حلم طويل يلتف حول نفسه، مثل الثعبان الذي يأكل ذيله.

من الإلهام والفهم العميق للرواية، أن يبدأ صناع المسلسل عملهم بصورة لهذا الثعبان، الذي يمثل دورة الحياة التي تأكل نفسها.

بين ماركيز ومحفوظ

من المدهش قدر التشابه بين رؤية ماركيز للتاريخ في "مئة عام من العزلة" ورؤية نجيب محفوظ في "أولاد حارتنا"، المكتوبة نهاية الخمسينيات، والتي كانت أيضاً من أسباب حصول محفوظ على جائزة نوبل في 1988، حتى أن عبارة "آفة حارتنا النسيان"، التي تتكرر عبر رواية محفوظ، نجدها بالنص في رواية ماركيز!

مع ذلك، فبينما ينظر محفوظ إلى التاريخ كفصول متعاقبة متشابهة، يرى ماركيز هذا التاريخ كحلم يدور في عقل محكوم عليه بالإعدام أو اللعنة، تتداخل فيه الشخصيات والأسماء والوقائع.. حتى أن الرواية نفسها مكتوبة كحلم تتداخل فيه الأزمنة والأمكنة والوجوه، وهذا بالطبع أحد أسباب صعوبتها و"استحالة" تحويلها إلى "دراما مصورة".

أضف إلى ذلك أن الرواية تكاد تخلو من الحوار، بينما يهيمن عليها صوت الراوي المحايد، الحزين والساخر، الذي يصنع مسافة بين المتلقي والشخصيات والأحداث، ومثلما في الأحلام، لا يستطيع الإمساك أو التأكد من شئ، خاصة مع مرور الزمن السريع، وعدم التوقف أمام شخصية أو حدث بعينه، على مدار 100 عام!

وإذا أضفنا إلى ذلك أن موقع الأحداث، وهو قرية "ماكوندو"، ليس له وجود في الواقع بالرغم من أنه يشبه كولومبيا، وأن الأحداث واقعية، بالرغم من أنها منسوجة بشكل سيريالي فانتازي فيما يطلق عليه "الواقعية السحرية"، وهو أسلوب يصعب تقديمه في السينما، حسب معظم التجارب السابقة مثل "بيت الأرواح" لايزابيل أليندي أو "الحب في زمن الكوليرا" و"ذكرى عاهراتي الحزينات" لماركيز، من بين أعمال مشابهة عدة تبين أنها تتبخر مثل الحلم حينما تتحول إلى أفلام، لعل أولها كان رواية "المحاكمة" لفرانتس كافكا. 

وإذا أضفنا العديد من المشكلات الأخرى المعتادة المتعلقة بالاقتباس من الأدب، يمكننا أن نتصور كم وحجم الصعوبات التي واجهت صناع مسلسل "مئة عام من العزلة". 

وليس ذلك من باب التبرير أو التماس العذر، ولكن لتبيان قيمة الإنجاز الكبير الذي يمكن اعتباره واحداً من أفضل الأعمال المقتبسة عن الأدب.

وهو بالتأكيد من أفضل الأعمال المقتبسة عما يعرف بأسلوب "الواقعية السحرية"، بالإضافة إلى أنه، قطعاً، أفضل عمل أقتبس عن روايات وقصص ماركيز.

حلم عجيب وفاتن 

هذا، أيضاً، عمل لا يشبه شيئاً آخر، وكثير من قواعد صناعة المسلسلات لا تنطبق عليه، وربما يكون صعباً بعض الشئ على المشاهدين الذين اعتادوا على الصياغات المألوفة الجاهزة. 

ولكن بقليل من الجهد والصبر، كما الحال مع الرواية، فإن المشاهد غالباً ما سوف يسقط بعد قليل أسيراً لسحر ومتعة "العيش في حلم عجيب وغريب وفاتن".

كيف استطاع صناع العمل أن يفعلوا ذلك؟

أول شئ يجدر الإشارة إليه هو الإنتاج، ليس فقط من خلال توفير أكبر ميزانية تم رصدها لعمل غير أميركي، ولكن أيضا للقرارات الإنتاجية الجريئة مثل أن ينطق العمل بلغته الأصلية – الإسبانية- وأن يعتمد بالكامل على ممثلين محليين غير معروفين، وأن يصور في كولومبيا، حيث تم بناء مدينة كاملة، منذ إنشائها بداية القرن التاسع عشر، مروراً بتحولاتها الكثيرة على مدار قرن، مع ما يستلزمه ذلك من تحولات لتفاصيل الحياة الأخرى.

الأمر الثاني هو أنه توفر للعمل فريق كبير من المحبين لماركيز، أولهم ابناه رودريجو وجونزاليس، ورودريجو بالمناسبة، هو مخرج سينمائي له العديد من الأفلام المتميزة. 

وابنا ماركيز لم يكتفيا بالموافقة على بيع حقوق الرواية، ولكنهما وضعا كثيراً من الشروط، كما شاركا كمنتجين منفذين للعمل.

الأمر الثالث هو عنصر الوقت، فرغم أن نتفليكس حصلت على الحقوق في 2019، إلا أن عملية الكتابة والتنفيذ استغرقت 6 سنوات كاملة حتى يخرج نصف المسلسل فقط إلى النور، إذ يتكون العمل من 16 حلقة مدة كل منها ساعة أو أكثر قليلاً، وقد تم عرض 8 حلقات فقط، ولم يعلن بعد عن بدء عرض الموسم الثاني. 

ويبدو أن وسيط المسلسلات القصيرة هو الحل لمثل هذه الأعمال الروائية، وهو وسيط لم يكن متاحاً في زمن ماركيز الذي رحل عن عالمنا منذ 10 سنوات.

التوقيت والإيقاع المناسب

هذا الوقت المبذول في تحضير العمل وتنفيذه لم يضع هباء، فوراء كل قرار واختيار فريق عمل كبير، منهم 6 كتاب واثنين من المخرجين هما ألكس جارثيا لوبيز ولورا مورا، وفريق من المصورين ومصممي الديكورات والملابس، وبالقطع فريق هائل من الممثلين الذين تم اختيارهم بعناية فائقة، خاصة أن الشخصية الواحدة غالبا ما يلعبها إثنان أو أكثر من الممثلين في أعمار مختلفة.

من خلال هذه الحلقات الستة عشرعثر فريق العمل على التوقيت المناسب، فلا هو فيلم يختزل الرواية حد الخلل، ولا هو مسلسل طويل يستطرد حد الملل. 

والحلقات الثمانية التي تمثل الموسم الأول، ربما باستثناء الحلقة الأولى التمهيدية والبطيئة نسبياً، مشدودة إيقاعياً وتتسم بالسرعة المناسبة، إذا استثنينا مشهداً هنا أو مشهدين هناك.

خالي من الصوابية

من مزايا هذا العمل أيضاً أنه يكاد يخلو من آثار "الصوابية السياسية" التي باتت تتحكم في كثير من الأعمال الفنية، بمناسبة وغير مناسبة، ذلك أن الرواية تعالج موضوعات باتت شديدة الحساسية هذه الأيام مثل علاقات الأقارب وزواج القصر والاعتداء الجنسي والانتحار. 

وليس معنى ذلك أن الرواية تؤيد هذه الأشياء، ولكنها تتعامل معها كمسلمات من ظواهر الحياة البشرية، مثل القتل والجريمة والخيانة والقهر السياسي والإبادة والحماقة والنسيان وعدم التعلم من الماضي.

وهذه الصوابية السياسية إذا ماتم تنفيذها حرفياً – دون فهم- يمكنها أن تفسد الأدب الكلاسيكي والشعبي كله، وإلا كيف يمكن معالجة أعمال مثل "الإلياذة" أو "ألف ليلة وليلة" أو السيرة الهلالية أو "الديكاميرون" (وهو العمل الذي أفسدته نتفليكس في مسلسل فاشل عرض منذ عدة أشهر)؟.

كتب جابريل جارثيا ماركيز "مئة عام من العزلة" على طريقة الملاحم الشعبية الكبيرة والمآسي الإغريقية الكلاسيكية.

في بداية المسلسل تحاول الشخصية الرئيسية "أورسولا"، مع زوجها، أن تهرب إلى مكان وعالم جديد بعيداً عن خرافات قريتها، ولكن أمها تحذرها على طريقة المآسي الإغريقية: " أينما ذهبتي لن تستطيعي أن تهربي من القدر". 

وربما يكون أجمل ما انتبه إليه صناع المسلسل، هو أنهم حافظوا على أسلوب وروح الملحمة.  

وقد تحقق ذلك من خلال عدة عناصر منها صوت الراوي الذي يقطع ويعلق على الأحداث والشخصيات، وكذلك محاكاة صوت ماركيز المحايد بتجنب اللقطات القريبة جداً والمواقف الميلودرامية العنيفة ذات الموسيقى الصاخبة.. وحتى أكثر اللحظات عاطفية وتأثيراً  في المسلسل تم معالجتها بنبرة موضوعية تليق بصوت الملحمة الشعبية.

أما اسلوب ماركيز الذي يتنقل بحرية بين الشخصيات والأمكنة والأزمنة، فقد عثر صناع العمل على معادل له من خلال اللقطات الطويلة الممتدة لدقائق والعابرة للمكان والزمان!

توازن دقيق

استطاع صناع المسلسل أيضاً، بشكل عام، تحقيق نوع من التوازن الدقيق بين ثرثرة المسلسلات وصمت الأدب. 

ولأن رواية ماركيز تخلو من الحوار تقريباً، ولأن ذلك مستحيل في مسلسل، فقد قام صناعه بعمل توازن بين صوت الراوي (ماركيز) وأصوات الشخصيات التي تتحدث، وصمت الصورة التي تبوح دون حوار. 

وبشكل عام تم تقليل جمل الحوار، وصياغتها بطريقة شاعرية، بجانب الاعتماد على الصورة الممتلئة بالتفاصيل والإيحاءات.

أيضا اهتم صناع العمل بإبراز شخصية المكان، فـ"ماكوندو" هنا بطل له شخصية وحضور، وهو ينمو ويتحول مثل الشخصيات بمرور الزمن والأحداث، ويصعب إغفاله أو نسيانه.

هذا بالتأكيد واحد من أفضل الأعمال المصورة المقتبسة عن الأدب، ولعلي أتجاوز، من فرط الحماس، فأقول أنها تفوق الأصل أحياناً.

* ناقد فني

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق